ما زال يتباهى بملابسه الخاصة بسعاة البريد، تلك الملابس الرسمية التي ما زال يرتديها ويجوب بها الشوارع على دراجته الهوائية في احيان كثيرة معلقا حقيبته الجلدية على كتفه، لكنها الان تشكو من جدب في الرسائل، يمد يديه فيها فلا يجد الا ما يحزنه، وفي نفسه يلعن الانترنت ورسائل "الموبايل" الذي جعل حقيبته موحشة الا من تلك الرسائل القاتمة التي نعني بها رسائل المخاطبات الحكومية، حيث يشير الى ان الناس ما عادت تردد تلك الاغنيات التي تتغنى برسائل البريد "عيونا تربي ياغالي وتنتظر ساعي البريد" او "رسالة للولف مني لوديها / قطعة من العتب والله لسويها"، ويؤكد : لم يعد للرسائل طعما كما كانت، فما اجمل ان تتلمس الاصابع ظرف الرسالة الذي عليه يلتصق طابع جميل وتخرج الورقة المطوية!
هذا الرجل الذي اسمه رضا محمد علي القباني من مواليد مدينة كربلاء عام 1941، كان مبتهجا اكثر من سواه في مناسبة "يوم البريد العراقي" التي صادفت الاربعاء 21/4/، فأقام معرضا شخصيا خاصا به، تناول صوره والكتابات عنه ومذكراته التي دونها، وصور الشخصيات المعروفة التي ألتقاها عبر مسيرته، من اقصى الستينيات الى الآن، كأنه يستجمع ذكرياته ليقول للناظرين "ها انذا... جزء من تاريخ البلد"، ويشير الى ان صورته موجودة حاليا في متحف لندن، موضحا: "ان الفنان إبراهيم النقاش نحت لوحة على الخشب خاصة به كونه أقدم ساعي بريد في العراق". بساطته تنم عن ان ما تحفظه ذاكرته ليس سوى ومضات لكنها تشعل في نفسه سراج السرور ليضيء اعوامه، وهو يفتخر انه اقدم ساعي بريد على قيد الحياة، يعلم ان هنالك كثيرين غيره ولكنه الوحيد الذي ما زال يعطي ويواظب على ان يكون اسمه "ساعي بريد"، على الرغم من مشاكستي له ان الانترنت لم يبق لهم من بقية، فكان يتحسر ويقول: آه... من الانترنت، فقد أثر علينا كثيرا، ولكن صحيح انه سريع ولكن هو ليس مثل رسائل الورق، عندما كان الواحد يسهر الليل ليكتب رسالة الى اهله او حبيبته، اما هذا الانترنت فهو مثل الورد الاصطناعي، بلا رائحة ولا جمال،
ثم استدرك: هل تدري ما حلاوة الرسائل في الاعياد والمناسبات السعيدة حين ترفق بالمعايدات الحلوة؟! وبعد ان انتهى من بعض الاحاديث مع الآخرين، اخذته من يده ودلفت به احدى الغرف في بناية بريد بغداد في الصالحية، وقلت له حدثني عنك ايها العريس، ابتسم لكلمة العريس، قال ولا زالت الابتسامة تملأ محياه: ولدت في كربلاء، وعشت طفولتي فيها وانتقلنا الى بغداد عام 1956، اي كان عمري 15 عاما، كنت احب ساعي البريد وهو يطرق الابواب لتسليم الرسائل الى الناس، كان شكله يدهشني ويعجبني وهو بملابسه الجميلة المميزة، لذلك اردت ان اكون مثله، وكان اول تعيين لي عام 1960 في البريد المركزي في منطقة (القشلة) كموزع بريد براتب قدره عشرة دنانير ونصف، بعد ان كنت اعمل بالاجور اليومية لمدة سنة، وكنت اوزع الرسائل في مناطق باب المعظم والوزيرية ومحلة نجيب باشا في الاعظمية، للبيوت والكليات والمعاهد، ادور عليها بدراجة هوائية.
لكن القباني ازاء سؤالي عن شهادته الدراسية قال انه يحمل شهادة الابتدائية، لكنه يستدرك باصرار: لكنني تثقفت، ثقفت نفسي بنفسي من خلال عملي وعلاقاتي بالكليات والمعاهد والشخصيات، كنت اقرأ الكتب التي يهدونها لي، ومن ثم صرت انا اطلب منهم الكتب الادبية كي اقرأها، وهذه عوضتني عن الشهادة. وتابع حديثه: خلال عملي في توزيع الرسائل تعرفت على الكثير من الوزراء والشخصيات السياسية والادبية والفنية، مثل علي الوردي وحسين علي محفوظ ومصطفى جواد ورضا الشبيبي ويوسف عز الدين والفنانين من اساتذة معهد الفنون الجميلة في منطقة الكسرة والطلاب مثل حسام الجلبي وناجي الراوي وحامد الاطرقجي وحميد المحل وصلاح القصب وكريم عواد كما كانت علاقاتي مع الناس علاقة محبة واعجاب، لذلك انا احب عملي كثيرا ولا استطيع تركه وتعرضت وقت الحرب بعد ان تم قصف بدالة الكاظمية الى تلوث في وجهي تسبب في اصابتي بالسرطان بعد ان حكم علينا مدير البدالة الى اخراج الكابلات من بين الانقاض، وساعدني في العلاج مجانا الطبيبان حسن هادي القزاز ومحمد بريسم، ولم تسنح لي الفرصة لكي اشكرهما بسبب سفرهما، وانا دائما اوجه لهما الشكر. وتابع : حينما احلت على التقاعد عام 2003 عدت الى الوظيفة متطوعا،
وكانت لدينا اطنانا من الرسائل التي منعتنا الحرب من توزيعها، وكنت اوزع الرسائل على دراجتي في المناطق الساخنة، حيث ارى اشخاصا ملثمين فيقولون لي: "ياحاج لا تأتي الى هنا بعد". يتوقف القباني يغمض عينيه وتبدو على محياه سحابات حزن لا اعرف مصدرها، ولكن ربما على ما آل اليه حال البريد والرسائل بعد ظهور الوسائل الجديدة التي قلصت عدد سعاة البريد، فسألته عن عدد الرسائل الآن، فأجاب: نقصت وقلّت بنسبة 90 %، الرسائل العادية على عدد اصابع اليدين، وسعاة البريد موجودون ولكنهم يوزعون الرسائل الحكومية بين الدوائر! طلبت منه ان يخبرني بصراحة هل تجرأ يوما على فتح رسالة معينة، فقال: ابدا لم افعل ذلك، هذه امانات الناس، وساعي البريد يجب ان يكون امينا عليها، ولكنني اذكر مرة جاء عندنا سعاة للتدريب وبعد مدة غاب احدهم فذهبت الى بيته لتفقده وحين دخلت غرفته وجدت عشرات الرسائل والمعايدات معلقة على الحائط، فلم يأت بعد، ساعي البريد اهم صفة يجب ان يتحلى بها هي الامانة وان لم يكن امينا لا يصلح لهذه المهنة.
وحين سألته لماذا يضع في معرضه الشخصي صورا للزعيم عبد الكريم قاسم، قال: لان لي حادثة طريفة معه، هذا الرجل انا احترمه واحبه، شخصية وطنية فعلا، الحادثة هي انني في احد الايام ذهبت لكي اسلم البريد الخاص بمكتب رئاسة مجلس الوزراء (مجلس السيادة) الذي كان رئيسه نجيب الربيعي، وهناك دخل عبد الكريم قاسم (رحمه الله )، وما ان رأيته حتى ارتبكت فتناثرت الرسائل على الارض، فشاهدني الزعيم وراح يبتسم للموقف، فأمر بعض حراسه بمساعدتي، كما أمر بأعطائي خمسة دنانير كمكافأة، وكان حينها مبلغا كبيرا.
على الرغم من انه في عامه التاسع والستين الا انه يلتصق بعمله في البريد كما يلتصق الطابع على ظرف رسالة، وطموحاته ان يستمر في عمله الى آخر ايام حياته، فحياته في هذه الملابس والحقيبة الجلدية والدراجة الهوائية، حيث ما زالت منطقته التي يدور فيها هي الكاظمية وما زال يوزع الرسائل رغم قلتها.
https://telegram.me/buratha