جاء ذلك خلال خطبتي صلاة عيد الاضحى المبارك التي أمّها سماحته صباح اليوم الثلاثاء 9/ 12/2008 والتي أقيمت في المكتب الخاص لسماحته بمشاركة الآلاف من المؤمنين الذين قدموا من مناطق بغداد المختلفة والمناطق المحيطة بها ، كما حضرها عدد من السادة الوزراء والمسؤولين وأعضاء البرلمان والشخصيات الرفيعة الأخرى في البلاد .
وفيما يلي النص الكامل لخطبتي صلاة العيد ..
بسم الله الرحمن الرحيم
( واذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فجّ عميق )
صدق الله العلي العظيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الانبياء والمرسلين محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى اصحابه المنتجبين .
اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة ولياً وحافظاً وقائداً وناصرا ودليلاً وعينا حتى تسكنه ارضك طوعاً وتمتعه فيها طويلا برحمتك يا ارحم الراحمين.
ابارك لكم ايها الاخوة المؤمنون ولعموم المسلمين في كل مكان ولحجاج بيت الله الحرام حلول عيد الاضحى المبارك سائلا المولى عزوجل ان يتقبل حجهم وأن يعيده على الجميع بالخير واليُمن والبركة ، والتوفيق للمزيد من العمل الصالح في خدمة دينه وعباده .
ايها المؤمنون الكرام ان عيد الاضحى المبارك يوم عظيم من ايام المسلمين فهو يشدنا إلى التضحية التي مارسها أبو الانبياء ابراهيم وولده اسماعيل وفيه تتكرر الممارسة والطقس العبادي كل عام ، ويمثل فرصة جديدة يمنحها الله لنا لنجدد الوقفة بين يديه ، وهي وقفة المحاسبة مع الذات والعهد مع الله سبحانه وتعالى في السير على النهج القويم الذي أمرنا به .
ان عيد الاضحى المبارك يحمل معاني سامية كثيرة منها انه يوم تقديم الاضحية تقرّباً الى الله تعالى على أمل القبول منه ، وتقديم الاضحية لايأتي لحاجة الله سبحانه وتعالى لها ، بل لتربية المسلمين على الاستعداد للتضحية من اجل التقرب الى الله والفوز برضاه .
ومن معاني العيد ايضاً وحدة المسلمين على صعيد واحد والتوجه نحو رب واحد وفي وقت واحد وهم يرتدون لباساً واحداً لا تمييز فيه بين الاسود والابيض من الناس ، انه يوم تتوحد فيه القلوب من كل الالوان والاجناس والطوائف والقبائل والشعوب ، انه يوم ينشد فيه المسلمون ويسبحون تسبيحا واحداً و يرددون نشيدا واحداً ، كما أنه اليوم الذي يعلن فيه المسلمون براءتهم من الشيطان ورجمهم له وهي ممارسة تعبرعن القطيعة الكاملة مع الشيطان ، والتوجه الخالص الى الله سبحانه وتعالى .
ان يوم عيد الاضحى هو يوم التوحيد والتوحد ، التوحيد لله سبحانه وتعالى من خلال المعاني السامية لاعمال هذا اليوم على صعيد منى حيث تجري كل مراسيم هذا اليوم في ذلك المكان المبارك ، وهو يوم توّحد للمسلمين حيث يتوحدون في منى وفي كل شيء .
اننا ايها الاخوة العراقيون والمسلمون في كل مكان مدعوون الى استلهام معاني هذا اليوم المبارك في حياتنا اليومية وفي علاقاتنا مع بعضنا من أجل أن نعمل على المزيد من تمتين أواصر الاخُوّة والمحبّة بيننا ، وأن نقف معاً في مواجهة كل المساعي والمحاولات التي ترمي الى تمزيق وحدة العراقيين او المسلمين ، وان نحذر من كل ما من شأنه الاساءة الى هذه الوحدة او تهديدها .
مرة اخرى اكرر التهنئة لكم ولعموم المسلمين بهذه المناسبة العظيمة ، خصوصاً مراجعنا العظام اطال الله اعمارهم وبارك في وجودهم الشريف وفي مقدمتهم آية الله العظمى السيد علي السيستاني ( دام ظله الشريف ) ، كما أسأله تعالى ان يجعلنا وأياكم في العام القادم من حجاج بيته الحرام المبرور حجهم المشكور سعيهم المكفّر عنهم سيئاتهم ، وأن يعيد حجاج بيته الحرام الى ديارهم وأوطانهم سالمين غانمين مقبولي الاعمال ، وأن يحفظ العراق والعراقيين من كل سوء ، وأن يديم علينا نعمه ظاهرة وباطنة ، وأن ينصر الاسلام والمسلمين في كل مكان .
الخطبة الثانية ..
نعيش اليوم على أعتاب تحول جديد في تاريخ العراق الحديث، وهذا التحول يتمثل في عدة امور منها:
اولا ـ أن العراق بعد مصادقة مجلس النواب على اتفاقية انسحاب القوات المتعددة الجنسيات من اراضيه، دخل في مرحلة تكثيف الجهود من اجل تحقيق السيادة الكاملة والخروج من أحكام الفصل السابع الذي وُضع العراق تحته منذ اكثر من سبعة عشر عاماً كان خلالها اما منزوع السيادة او ناقص السيادة ، وقد جرت احداث جسام في هذا البلد تحت احكام هذا الفصل بسبب الحماقات التي ارتكبها صدام ونظامه.
اننا نرى ان الاتفاقية هي خطوة مهمة إلى الأمام.. وان تأييد البعض ومعارضة آخرين هو دليل على الديمقراطية النامية في العراق وحرية التعبير عن الرأي ، وان تعزيز ذلك كله بالاستفتاء الذي سيجري خلال العام القادم هو كله مصدر اطمئنان وارتياح لكل غيور على مصلحة العراق والعراقيين ، لذا ندعو الى تكثيف الجهود وتصعيدها لحين تطبيق الاتفاق من اجل اخراج العراق من احكام الفصل السابع التي وضعت العراق تحت الوصاية الدولية ، لاننا نعتقد ان تمتعنا بسيادتنا الكاملة على ارضنا وثرواتنا هو حق طبيعي بعد ان خرج العراق من دائرة الدول التي تهدد السلام والامن الدوليين ، لاسيّما وأن الدستور العراقي اكد على ان لايكون العراق مصدر تهديد للجيران ، كما ان الاتفاقية اشارت في احد بنودها انها ليست موجهة ضد اي أحد .
ثانيا ـ اننا امام استحقاق وطني جديد يتمثل بانتخابات مجالس المحافظات ، وهي انتخابات نعتبرها مهمة جدّاً وتمثل تحوّلاً كبيراً في تاريخنا الحديث ، فهي المرّة الاولى التي تجري فيها انتخابات المحافظات في ظل الدستور، ووفق قانون اقرّه مجلس النواب ، اعطى للمحافظات الصلاحيات المنصوص عليها في الدستور، مما يعني ان بناء الدولة العراقية والمحافظات سيتحول الى بناء الدولة اللامركزية تمهيداً الى التحول الى الاقاليم الفيدرالية طبقا لما جاء في الدستور من تعريفٍ للعراق بأنه اتحاديٌّ فيدراليٌّ بعد ان تحققت صفة كونه برلمانيا أثرٌ انتخابات مجلس النواب الماضية.
وأننا بهذا الصدد ندعو الجميع الى انجاح هذه التجربة وجعلها تصب في خدمة مصالح العراقيين ، وندعو عموم العراقيين في كل مكان من ارض العراق وخصوصا في المحافظات التي ستجري فيها الانتخابات الى تحمل مسؤولياتهم واستخدام حقهم الطبيعي في اختيار ممثليهم في مجالس المحافظات والتدقيق في اختيار الاصلح والاكفأ والأقدر وانتخاب الاشخاص الذين ضحوّا من أجل العراق والعراقيين ممن هم أكثر تديناً وإيماناً وشجاعةً ولهم تأريخ ناصع في ذلك ، كما ندعوهم الى الابتعاد عن كل ما من شأنه الاساءة الى نزاهة هذه الانتخابات ، والعمل على الالتزام بقواعد السلوك الانتخابي التي تعبر عن التنافس الحر الشريف ، وتعكس العمق الحضاري للعراق والعراقيين.
كما ندعو الكيانات السياسية المشاركة في الانتخابات الى استخدام كل الوسائل المتاحة قانونياً واخلاقياً لخلق اجواء التنافس الشريف بينها من اجل كسب اصوات الناخبين في اجواء الحرية بعيداً عن استخدام العنف او التهديد .
ان تهديد المرشحين والناخبين وتزوير الانتخابات من أخطر ما يهدد مصداقية الانتخابات ، ولذلك ندعو الجميع الى الابتعاد عن استخدام هذه الاساليب لانها لا تكشف عن الواقع الحقيقي للشعب العراقي بقدر ما تكشف عن تخلّف الجهات التي تلجأ الى مثل هذه الاساليب للوصول الى مواقع المسؤولية .
كما ندعو المسؤولين عن الانتخابات الى اتخاذ الاجراءت التي تضمن الشفافية والمصداقية في كل مراحل العملية الانتخابية ومعالجة كل المعوقات التي يمكن من خلالها الطعن بشفافية الانتخابات ، ولذلك ندعو السادة اعضاء المفوضية العليا للانتخابات الى معالجة كل الثغرات من الآن والاستماع الى المقترحات البناءة التي يتقدم بها المختصون او الكيانات السياسية والتي ترمي الى اجراء انتخابات عالية المصداقية .
كما ندعو الاجهزة المختصة بأمن الانتخابات الى المعالجة الحازمة والصارمة لكل الحالات التي ترمي الى تعطيل حرية الرأي او التشويش على رأي الناخبين او منع المرشحين من القيام بوظيفتهم في الدعاية الانتخابية لانفسهم او لقوائمهم .
اننا نسعى الى اجراء انتخابات حرة ونزيهة وندعو الجميع الى توفير مثل هذه الاجواء لنقدّم للعالم والمنطقة تجربة تتمتع بالمستوى العالي من الشفافية والمصداقية ، وهذا هو العراق الجديد الذي ناضلنا من اجله وتحملنا في سبيله التضحيات الكبيرة طيلة العقود الاربعة الماضية .
ان امامنا في العام القادم انتخابات متعددة فهناك انتخابات مجالس الاقضية والنواحي والاستفتاء على اتفاقية انسحاب القوات المتعددة الجنسية وانتخابات مجلس النواب ، وهي كلها استحقاقات مهمة ، كما ان ممارستنا الانتخابية لمجالس المحافظات ستضيف لبنة اساسية ومقدمة ضرورية للنجاح في الممارسات اللاحقة ، ومن هنا تأتي اهمية هذه الانتخابات ايضاً .
ثالثا ـ ان التوافق الوطني صار معلَمَاً مهمّا من معالم النظام السياسي في العراق الجديد ، ونؤكد في هذا المجال على ضرورة المحافظة على هذا التوافق ضمن اصول العملية الديمقراطية ، ومن هنا ندعو الى تفعيل نتائج اللجان الخمس التي تم تشكيلها لتقديم معالجات شاملة وحاسمة لكل المسائل العالقة التي تعيق تقدم العملية السياسية ، وكذلك تفعيل ورقة الاصلاح السياسي التي أقرت في مجلس النواب .
ان ما نحرص عليه هو المحافظة على المرجعية القانونية الواحدة المتفق عليها وهي الدستور الذي هو القانون الاعلى للبلاد والذي صوت عليه العراقيون في استفتاء عظيم في ظروف بالغة الحساسية .
ان احترام الدستور والتقيد ببنوده هو تعبير عن احترام ارادة العراقيين وخيارهم ، ولايمكن باي حال من الاحوال الخروج عن الدستور وتحت أي تبرير كان مادامت بنود هذا الدستور نافذة .
ان احترامنا للدستور نابع عن عقيدة وليس عن رغبة في استثمار سياسي ، لان هذا الاحترام هو الذي يقودنا الى ارساء دعائم دولة القانون ، وان الاجتهادات الشخصية محترمة لدينا ، ولكن هذه الاجتهادات مهما كانت فأنها تبقى اجتهادات غير قانونية ولا ترقى الى مصاف القانون الاعلى للبلاد .
ايها الاخوة والاخوات الاعزاء
ان العراق بحاجة الى كل ابنائه ، فهم جميعاً يمثلون- مجتمعين ومنفردين- لبنات اساسية في بناء العراق واخراجه من ركام السنوات العجاف الماضية ، وقد مضى اكثر من خمس سنوات حين بدأنا مشوار بناء العراق الجديد ، وما زلنا في اول الطريق ، وقد آن الاوان للجميع ان يدركوا ان شعار(العراق لكل العراقيين) هو حقيقة موضوعية لايمكن القفز عليها ، فالعراق دولة وشعباً لايمكن ان يكون لفئة دون اخرى ، بل هو للجميع ، وقد ذاق العراقيون الويلات من محاولات الانظمة السابقة الاستئثار بالسلطة او خطف العراق لصالح حزب او فئة دون المكونات الاخرى.
ومن هذا المنطلق نحيي دور الحكومة الاتحادية والحكومات المحلية وحكومة الاقليم ، كما نحيي دور القضاء والدور الكبير لمجلس النواب واعضائه والكتل والقوى السياسية ، ونحيي القوات المسلحة الباسلة ودور العشائر العراقية الايجابي في بناء العراق ، كما نحيي دور مؤسسات المجتمع المدني ، دور الرجال والنساء ، دور الشباب والشيوخ ، دور العمال والفلاحين ، دور الرياضيين والشباب ، دور المهندسين والاطباء والاكاديميين والطلبة والجامعيين ، دور المواكب الحسينية والحسينيين ، نحيي الشيعة والسنة ، المسلمين والمسيحيين والصابئة والايزديين ، نحيي العرب والكرد والتركمان والكلدان والاشوريين والشبك ، نحيي كل المكونات وكل الفئات ، ما داموا مع العراق ويعملون من اجل العراق الواحد الموحد ، كما نقف وقفة خاصة في يوم الاضاحي هذا مع الفقراء والمحرومين والمظلومين وعوائل الشهداء سواء الذين استشهدوا في ظل النظام السابق الظالم أو على يد الارهابيين والتكفيريين ، كما نتابع باهتمام بالغ كل الجهود لتقديم الدعم والعون لهم وللعوائل المهجرة في داخل العراق وخارجه للعودة آمنين معززين إلى دورهم ومناطقهم . كمانحيي وباهتمام خاص دور مراجع الدين العظام وفي مقدمتهم آية الله العظمى السيد علي السيستاني(دام ظله العالي) ، ونحيي دور الحوزات العلمية اساتذة افاضل وطلابا ، وندعو الله سبحانه وتعالى ان يحفظ هذه المؤسسة العريقة العظيمة التي قدمت للاسلام والعراق اعظم الخدمات ، وحفظت وحدة العراق ودافعت عن حقوق العراقيين وعن حريتهم وكرامتهم وارادتهم ، وتحملت ما تحمّلت من الصعوبات ، وقدمت قوافل تترى من الشهداء الكبار من مراجع الدين العظام كالشهيدين الصدرين العظيمين وشهيد المحراب الحكيم الخالد والاساتذة والطلاب ، ورغم كل الصعوبات بقيت الحوزة العلمية راسخة مستمرة مؤمنة بدورها متحملة لمسؤلياتها .
وفي الختام اسال الله سبحانه وتعالى ان يوفقنا واياكم في هذه الايام وفي كل الايام لخدمة العراق والعراقيين ، وان يتقبل اعمالنا واعمالكم ، وان يحفظكم ويرعاكم ، ويحفظ العراقيين والمسلمين جميعا من كل سوء ، انه نعم المولى ونعم النصير.
https://telegram.me/buratha