في بعقوبة، كان محقق الشرطة يقلّب أوراقَ مَلفّ على مكتبه في ساعة مبكرة من صباح يومٍ لم يبزغ فجرُه بعدُ، وانقطع التيار الكهربائي قبلها بساعات.
كان على وشك أن يقول شيئاً عندما دوّى انفجار قنبلة على مسافة غير بعيدة اهتزّت له جدران غرفته وتحشرج منه صوت جهاز الراديو، فأشار إلى زملائه بأن يلحقوا بعدد من الضباط هُرعوا إلى مكان الحادث، وقال لي وهو ينهض واقفاً للانضمام إليهم: «ستحبّين بيداء عندما تلتقينها» وأضاف الرائد هشام التميمي، الذي كان يشغل منصب مدير مكتب التحقيقات والمعلومات لدى قيادة شرطة ديالى، وهو يلاحظ استغرابي لِما قاله حول شخص يسعى إلى قتل أمثاله وأمثالي: «أنا أحب بيداء.. إنها صادقة». بيداء هذه هي واحدة من بين 16 انتحارية مُشتبه بها اعتقلتها شرطة محافظة ديالى مطلع العام 2008 -وقد نفّذ عدد مماثل من الفتيات عملياتٍ انتحارية قبلها- وتشاركها الزنزانة زميلة لها اسمها رانيا كان عمرها 15 سنة عندما اعتقلت وهي في طريقها إلى تنفيذ عملية انتحارية، كما جرى اعتقال والدتها للاشتباه بعلاقتها بالذين خططوا لانتحار رانيا. تفيد إحصائيات القوات الأميركية والشرطة العراقية بأن عدد العمليات الانتحارية التي نفذتها أو حاولت تنفيذها نساء في العراق بلغ 60 عملية، معظمها خلال العامين 2007 و 2008، وأن ثلث هؤلاء على الأقلّ ينتمينَ إلى محافظة ديالى، والأكثرية منهنّ إلى عاصمتها بعقوبة، أو الوادي المحيط بنهر ديالى. هذه البقعة من الأرض الغنية بالخضرة وأشجار النخيل والتي تبدو كالواحة في قلب الصحراء، كانت على مدى السنوات الأربع الماضية مرتعاً لأشرس التنظيمات الإرهابية، وفيها وفي بغداد أعدّ المتطرفون أكثر أسلحتهم فتكاً: الانتحاريات. لكل واحدة قصة.. وكلها متشابهة من الصعب معرفة الكثير عن الانتحاريات لأنه من النادر أن يتبقى منهنّ شيء. لكن في ديالى بالتحديد، ونظراً لكثرة عددهنّ، أكبّت الشرطة على دراسة الظاهرة. تعتبر قصة كل واحدة من الانتحاريات فريدة من نوعها، إلا أنها جميعاً متشابهة من حيث فقدهنّ أقاربَ ذكوراً، حيث فقدت بيداء ورانيا أبوَيهما وإخوَتهما. وتعيش معظم هؤلاء في مجتمعات منعزلة يسيطر عليها متشدّدون وتحكمها مفاهيم التطرّف. ولا حول ولا قوة للمرأة في مثل هذه الأوساط في تقرير مصيرها أو اختيار زوجها أو عدد الأولاد الذين ستنجبهم أو ما إذا كانوا سيذهبون إلى المدارس بعد المرحلة الابتدائية. في هكذا ظروف، تصبح العمليات الانتحارية خياراً يُكسب المرأة إحساساً بالخصوصية والتميّز. لكن الرائد هشام يقول إن الحالات تختلف، فبعضهنّ مُسنّات والبعض الآخر شابّات، وبينهنّ أيضاً مجرمات ومؤمنات. ثمة شيء واحد أكيد، وخلاصتُه أن ظهور انتحاريات في ديالى رافَقَ نشوء «دولة العراق الإسلامية»، الوجه المحلي لتنظيم «القاعدة في بلاد الرافدَين» والمظلة التي تنضوي تحتها الجماعات السنيّة المتطرفة التي ترتبط بقيادة خارجية، والعديد منها ناشط داخل العراق، لكن الذي يتصل بالتنظيم متخصص في العمليات الانتحارية. وفي ديالى، عُرِفَ تنظيم «دولة العراق الإسلامية» بقوة التنظيم والوحشية في تنفيذ عملياته، ومنها الاختطاف الجماعي والقتل الجماعي وقطع الرؤوس ونصب الكمائن من دون تمييز بين امرأة وطفل وسنّي وشيعي وكردي، ما اضطرّ قرى بمجملها إلى الفرار فيما وقعت أخرى تحت سيطرة المتطرفين. وتنتمي الكثير من الانتحاريات إلى أسر مُغرقة في الثقافة الجهادية. وقد صادف ارتفاع عدد الانتحاريات في العراق اتساع مقدرة قوات الأمن على الحدّ من نشاط الانتحاريين. ففي العامين 2006 و 2007، زادت القوات الأميركية والعراقية من اعتمادها على الحواجز الإسمنتية لعزل المباني الحكومية والأسواق وأماكن التجمّع الأخرى من السيارات المفخّخة، وتحوّلَ المتطرفون إلى النساء اللواتي يرتدين العباءات ولا تقرّ العادات والتقاليد تفتيشهنّ من قبل الشرطة، الأمر الذي يسهّل مرورهنّ عَبْرَ الحواجز ودخول مكاتب ومنازل الذين يستهدفهم المتطرفون. وشيئاً فشيئاً أصبح رجال الشرطة قادرين على كشف هؤلاء النسوة بعباءاتهنّ المزدوجة بقصد إخفاء ستراتهنّ الناسفة وزينتهنّ التي كنّ يحرصنَ عليها «استعداداً للذهاب إلى الجنة». ومع أن الحكومة العراقية أنهت تدريب 27 شرطية في ديالى في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، فقد جاءت الخطوة متأخرة ولم يمكن إنقاذ ما يربو على 130 شخصاً من الموت بسبب عمليات نفذتها انتحاريات في تلك المحافظة. بيداء.. التي تحلم بتفجير نفسها كان الرائد هشام على حق. فقد أحببتُ بيداء من النظرة الأولى، بوجهها الصبوح وبشرتها الشاحبة وبنيتها المعتدلة وقد ظهرت خصلاتٌ من شعرها الكستنائي من تحت عباءتها السوداء. وبدا من حديثها أنها مثقفة. وقالت إن اسمها بيداء عبدالكريم الشمّري، من بعقوبة الجديدة، وإنها واحدة من ثمانية أبناء لقي أربعة منهم مصرعهم يومَ داهمت قوات الشرطة منزل والدَيها قبل الفجر بنصف ساعة، وكان أميركيون برفقتهم. وأضافت بيداء إن أشقاءَها من المجاهدين الذين يقاتلون الكفار الأميركيين ويَصنعون العبوات الناسفة الموقوتة، وإنها تساعدهم في ذلك وهي فخورة بكونها متطوعة وأنها وأخوتها يفعلون ذلك في سبيل الله. تروي بيداء أنها كانت تحلم بأن تصبح مهندسة لكن أمها توفيت عندما كان عمرها 17 سنة وأباها مَرِضَ وأنها تزوجت من رجُل كان يضربها. وتقول إن لها أبناء عمومة مقاتلون أيضاً ويتلقون أجراً مقابل عملهم، لكنها شخصياً مدفوعة برغبتها في الانتقام لمقتل أبيها وأشقائها وإنها لا تنسى منظر جار لها يُقتل بدم بارد على أيدي جنود أميركيين. نادراً ما يكون تنفيذ عملية انتحارية ناجحة عملاً فردياً، ويكاد يكون من المستحيل على امرأة أن تتصرف لوحدها في العراق، حيث لا تقود النساء السيارات إلا ما ندر، باستثناء بغداد. وتتلقى انتحاريات ديالى التدريب والمساندة من الشبكات التي ينتمينَ إليها أو من أفراد أسرهنّ الناشطين في هذا المجال. وتقول بيداء إنها بعد مقتل أبيها وأشقائها عرّفها ابن عمّ لها قبل مقتله في عملية انتحارية على مجموعة تُدار من سورية ولها علاقة بتنظيم «دولة العراق الإسلامية» وتدرّب الرجال والنساء على العمليات الانتحارية. لم تكن تلك رغبة بيداء عندما انضمت إلى المجموعة، لكنها سرعان ما وجدت نفسها منخرطة في نشاطاتها بعد أن تقبّلت فكرة الموت من أجل الانتماء إلى تحالف مقدّس، خصوصاً أن آلية عمل المجموعة كانت تقوم على الإيحاء للانتحاري بأن له مُطلق الحرية في اختيار مصيره. وكان من المهم بالنسبة لبيداء التي لم تملك سوى القليل من الحرية في اختيار طريقة حياتها أن تكون لها كامل الحرية في اختيار طريقة موتها. وفي خطوة لاحقة، رفضت بيداء ارتداء حزام ناسف واستهداف رجال الشرطة لأنهم مسلمون وهذا حرام وجزاؤه جهنّم، لكنها تقبّلت فكرة استهداف الأميركيين لأن جزاء ذلك الجنّة ولأنهم غزاة ومحتلّون وكفرة ويهود. على أن خيار الانتحار لا يتوقف على الانتحارية فقط، ففي العراق اليوم مظهر جديد لأسلوب تنفيذ مثل هذه العمليات، حيث يحتوي الحزام على أداة متصلة بجهاز تفجير عن بُعد يجري تفعيله من قِبَل شخص آخر في حال تراجعت عن قرارها، كما حدث لشيماء التي تقول بيداء إنه تمّ تفجيرها وهي ترتدي حزاماً ناسفاً في عملية أسفرت عن مقتل خمسة أو ستة أشخاص. الطريق إلى أبو صيدا.. والقرن السابع عشر في قضاء أبو صيدا التابع لمحافظة ديالى والمجاور لوادي نهر ديالى، تعرّضت الطريق الرئيسية للقصف عدة مرات وأصبحت المَزارع والقرى متباعدة بسبب القنوات المائية، وهو ما يجعلها مرتعاً للمتمردين. هناك تقع قرية مَخيسة التي نشأت فيها ثلاث نساء على الأقلّ أصبحنَ انتحاريات، ومنهنّ رانيا إبراهيم، زميلة بيداء في الزنزانة، ويُقال إنها كانت البلدة المفضلة لدى زعيم القاعدة في بلاد الرافدين أبو مصعب الزرقاوي الذي تزوّج امرأة منها وكان يقيم فيها أحياناً إلى أن قُتِلَ يوم 7 يونيو (حزيران) 2006. كانت آخر عملية انتحارية شهدها محيط بلدة مَخيسة قد أسفرت عن مقتل ما لا يقلّ عن 47 شخصاً معظمهم من الحجاج الإيرانيين الشيعة. وكان دخول المنطقة مصدر خطر كبير على الجيش والشرطة العراقيّين حتى العام 2007. وعندما تمكنوا من دخولها أخيراً لم يجدوا فيها أي جهاز تلفزيون لأن ذلك كان محظوراً، ولا سكائر ولا بندورة ولا خيار معاً في دكان واحد.. «لأنه لا ينبغي أن يكون لدى الناس اليوم ما لم يكن موجوداً في صدر الإسلام، ولأن الكهرباء لم تكن موجودة في القرن السابع عشر»، كما يروي العقيد خالد محمد العامري، الذي كان ضابطاً إبان حكم صدام حسين والذي خَدَمَ في كافة أنحاء العراق. وينقل العقيد العامري عن المتشدّدين السنّة في البلدة تفسيرهم لعدم السماح بوجود البندورة والخيار في مكان واحد على خلفية أنهما يرمزان إلى العضوين الأنثوي والذكري. في العام 2007، خطفت ميليشيا شيعية والد رانيا وقتلته، ثم رأت أمها أن تزوجها لأحد أعضاء تنظيم «دولة العراق الإسلامية»، الذي اصطحبها بعد سنة من زواجهما إلى منزل في بعقوبة كانت فيه امرأتان زَعَمَ أنهما قريبتان له ألبستاها سترة ناسفة بعد أن قدّمتا لها طعاماً لذيذاً وشراباً له رائحةٌ عَطِرَة. وعلى الأثر، خرجت إحدى المرأتين وتُدعى أم فاطمة مع رانيا للتسوّق. وفي البازار اعترى رانيا شعورٌ بالخوف من الموت وطلبت أن ترى أمها وسرعان ما توارت عن الأنظار. ولما فقدت أم فاطمة الاتصال بها ابتعدت هي الأخرى عن المكان وألقت بجهاز التفجير عن بُعد في الشارع. ولدى مرور رانيا مُسرعة بالقرب من نقطة تفتيش لتنظيم «الصحوة» الذي يدعمه الأميركيون في حربه ضد «القاعدة في بلاد الرافدين» اشتبَهَ الحراس بها لحجم عباءتها فطلبوا منها التوقّف ومن امرأة كانت تعبر الشارع تفتيشها، وما إن رأت الأخيرة الأسلاك تحت العباءة حتى صاحت هلعاً وأطلقت ساقيها للريح. بعدها بساعات، كانت رانيا تقبع داخل الزنزانة ومعها أمها. وبتاريخ 3 أغسطس (آب) حُكم على الشابة بالسجن لمدة سبع سنوات ونصف السنة بموجب قانون الإرهاب العراقي. وبعدها ببضعة أيام، قرّر الأطباء نقل بيداء من مستشفى «الرشاد» إلى سجن بعقوبة. واليوم، ليس لديّ ما يبرّر الشك بأنها بمجرّد إخلاء سبيلها ستنطلق إلى تحقيق حلمها بتفجير نفسها، تمسّكاً منها بحرية الاختيار واستقلالية القرار. عن صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية
https://telegram.me/buratha