عبد الأمير رجل عراقي بسيط تجاوز عقده الأربعيني ببضع سنوات، قدم من محافظة النجف ليعمل حمالا في سوق الشورجة التجاري بوسط بغداد، ثم اشترى بعد ذلك عربة خشبية بمبلغ 220 ألف دينار عراقي، مما أدخره من أموال من عمله، لكي توفر له وسيلة عمل أفضل من عمله حمالا في أكبر وأشهر أسواق العاصمة بغداد، لكن فرحته لم تدم طويلا بهذه العربة، فقد مر رتل أمريكي في ساحة الخلاني القريبة من سوق الشورجة، واصطدمت إحدى المدرعات بالعربة وحولتها إلى حطام.
يقول حميد عبد الأمير الذي يمكث منذ عدة شهور في ساحة كهرمانة بمدخل مدينة الكرادة والقريبة من ساحة الفردوس، التي شهدت إسقاط تمثال الرئيس السابق صدام حسين في التاسع من نيسان عام 2003، إنه يقف هنا حاملا العلم العراقي بانتظار أن يمر رتل أمريكي، ليسأله عن سبب رفعه علما عراقيا بهذا الحجم الكبير، ويجيب على سؤاله بنفسه قائلا "لكي يرجعوا عربتي التي سحقتها إحدى مدرعاتهم في منطقة الخلاني".
وعلى الرغم من أن أمنية عبد الأمير قد يتعذر تحقيقها، لأن من المستبعد أن يمر رتل أمريكي ويتوقف عنده ليسأله عن سبب وجوده في الساحة، لكن الأمر أصبح بالنسبة له أشبه بالطقس الذي اعتاد عليه، كما اعتاد على مشاهدته عشرات المارة الذين يسلكون الطريق كل يوم.
لا يعنيني بقاء الأمريكان أو خروجهم
ويضيف عبد الأمير الذي يتعاطف معه أغلب سكان المنطقة القريبة من ساحة كهرمانة ويقدمون له الطعام، "أنا إنسان أمي ولا أعرف أي شيء عن السياسة، ولا يعنيني خروج الأمريكان أو بقائهم، كل الذي أريده أن يعوضوني عن "عربانتي"، وهو الاسم الشائع للعربة في العراق.
ويؤكد عبد الأمير أنه "عرض حالته على الشرطة العراقية، لكنها لم تجبه بشيء"، كما يقول، ويروي أنه تمكن يوما من الوصول لإحدى عربات القوات الأمريكية، أثناء وقوفها أمام مركز شرطة الميدان وسط بغداد، ويقول "نصحني الجنود الأمريكان بالذهاب لوزارة الدفاع العراقية، التي تضم قوات عراقية وأمريكية مشتركة".
ويتابع عبد الأمير حديثه لـ"نيوزماتيك" وهو يمسك بسارية العلم بقوة، وعيونه تلاحق السيارات المارة، "طلب مني الأمريكان أن ألتقط عدة صور "للعربانة" التي تحولت إلى أشلاء، ولكنني كنت قد بعت خشبها المتبقي بـ30 إلف دينار، لكي أتمكن من شراء الطعام".
الاحتجاج الفردي يفوق تظاهرة مليونية مفبركة
ويصف الصحفي والكاتب العراقي قاسم المالكي وقوف عبد الأمير المتواصل، احتجاجا على إلغاء مصدر رزقه بأنه "تطور نوعي في مفهوم الاحتجاج في العراق، لأن تأثير عمله هذا يفوق بقوته، تظاهرة مليونية مفبركة ترعاها جهة سياسية ما".
ويعتقد المالكي في حديث لـ"نيوزماتيك" أن عبد الأمير "ربما لا يعي أبعاد هذه التظاهرة الفردية، ولا معنى رفعه للعلم العراقي حتى الآن، إلا أنه بالتأكيد استطاع إيصال رسالته للعشرات من الذين شاهدوه في كهرمانة، ليسألوه عن سبب رفعه للعلم وحده".
الشرطة: احتجاج عبد الأمير ليلا دليل على التحسن الأمني
أما رجال الشرطة المكلفين بحفظ الأمن في منطقة الكرادة، فيؤكدون من جهتهم أن "حالة الاحتجاج التي قام بها عبد الأمير تعتبر الأولى من نوعها في ساحة كهرمانة".
ويقول الشرطي إبراهيم حسين لـ"نيوزماتيك"، إن "عبد الأمير يمثل صورة جميلة إضافية لتمثال كهرمانة الذي يقف قربه، فهو يرفع علما عراقيا كبيرا ومميزا نعتز به جميعا كعراقيين".
ويضيف أن "وقوفه لوقت متأخر من الليل يمثل انجازا كبيرا لنا كقوات أمن ويؤكد أن ليل بغداد بدأ يتحسن أمنيا، فضلا عن أن احتجاجه السلمي يفرحنا، ويدعو الجميع للابتعاد عن استخدام السلاح ضد الدولة كوسيلة لإبداء الرأي".
وتمثال كهرمانة هو أحد الأعمال المشهورة للفنان التشكيلي العراقي محمد غني حكمة، وضع في سبعينيات القرن الماضي، وتظهر فيه كهرمانة الجارية البغدادية، وهي حاملة جرة كبيرة تصب منها الزيت المغلي على أربعين جرة تطل منها رؤوس أربعين لصا، ويمثل النصب إحدى حكايات ألف ليلة وليلة، المعروفة باسم "كهرمانة والأربعين حرامي".
ومع انخفاض حركة السير في الشارع قبل منتصف الليل، يتوجه عبد الأمير سيرا على قدميه نحو منطقة الباب الشرقي قاطعا شارع السعدون وحيدا، لكي يصل إلى أحد الفنادق الرخيصة التي لا يتجاوز سعر المبيت فيها الثلاثة آلاف دينار لليلة الواحدة، ينام عبد الأمير ويراوده حلم اللقاء، في اليوم التالي، بمن سيعوضه عن "عربانته"، أو قد يحلم بشراء غرفة صغيرة يسكن فيها.
https://telegram.me/buratha