خرج رئيس جهاز الاستخبارات البريطانية السابق عن صمته، وسحب البساط من تحت أقدام أصحاب "ملف ترامب الروسي"، وطعن بالتقرير الذي أعده ضابط الاستخبارات البريطانية المكلف كريستوفر ستيل ويستند إليه التحقيق الأمريكي طيلة 3 سنوات لإثبات "عمالة الرئيس الأمريكي للكرملين".
وقبل أن يثور السير جون سكارليت، سبق له وأقر بلباقة أمام الصحفيين الأمريكيين بأن تقرير مأموره ستيل عن "تخابر" ترامب مع الروس ليس إلا "ورقة بلا قيمة".
فقد ورد في "ملف ترامب الروسي"، خمسة اتهامات جدية لروسيا اعتبرتها شريحة لا بأس بها من المجتمع الأمريكي "حقائق دامغة لا لبس فيها".
"الحقيقة" الأولى، هي أن روسيا الاتحادية ما انفكت في غضون سنوات تزوّد ترامب بمعلومات سرية يسخرها في "ابتزاز" خصومه السياسيين في الولايات المتحدة، وأن الدعم الإعلامي له قد بدأ قبل ست سنوات من انتخابه رئيسا لبلاده، والأدهى من ذلك أن ترامب، قد عقد مع الاستخبارات الروسية صفقة مقايضة تقوم على تزويده موسكو بمعلومات عن نشاطات الأليجارشيين الروس في الولايات المتحدة، لقاء حصوله من الاستخبارات الروسية على معلومات تدين خصومه لابتزازهم بها.
الحقيقة الثانية في "ملف ترامب الروسي"، هي أنه في حوزة الأجهزة الروسية معلومات تدين لترامب، وتتلخص في تسجيلات لـ"وقائع" قضائه وقته الضائع مع بائعات الهوى في أحد أجنحة الفنادق الرئاسية الفاخرة في عاصمة الروس موسكو.
الحقيقة الثالثة كما أكد معدو الملف، تتجسد في "مؤامرة" حيكت بين ترامب والسلطات الروسية، تكفل بموجبها الأخيرة تفويز ترامب في الانتخابات الرئاسية وتنسيقه معها خطواته خلال حملته الانتخابية.
رابعة الحقائق، تمثلت في أن ترامب والقيادة الروسية عقدا صفقة تقتضي تسريب روسيا لموقع "ويكيليكس" معلومات تدين هيلاري كلينتون منافسة ترامب اللدودة في الانتخابات، لقاء تنازلات يقدمها الأخير لموسكو في سياسة بلاده الخارجية بعد جلوسه على كرسي الحكم.
وأخيرة الحقائق الخمس، تلخصت في أن مسؤولين كبارا في حملة ترامب الانتخابية أداروا شخصيا مفاوضات مع أقطاب النخبة السياسية الروسية و"العملاء الروس" حول سبل الحصول من موسكو على معلومات تدين خصوم ترامب، وكيفية دعمه ماليا لتنجيحه في الانتخابات.
وبالوقوف على "الحقائق الخمس" الواردة في "ملف ترامب الروسي"، يصعب على المتابع ألا يشعر بأنه يقرأ سيناريو أعد في استوديوهات هوليوود لفيلم "أكشن وحركة" من الفئة "باء"، أو يتعذر عليه التصديق في أن هذا "الملف" قد صيغ بريشة محلل موثوق، نظرا لافتقاره لأي منطق قريب من الواقع، أو أي نوع من الإثبات.
المعضلة في أن "الملف" صيغ على يد مسؤول رفيع سابق في الاستخبارات البريطانية وهو كريستوفر ستيل الذي تبيّن أن الاستخبارات الأمريكية كانت تعتبره طيلة سنوات "الخبير الأول في الشأن الروسي"، لاسيما وأنه كان متفرغا في صفوف الاستخبارات البريطانية للشأن الروسي.
أصحاب هذه الحقائق والـ"الملف" عندما تطرح عليهم الأسئلة حول مصدر معلوماتهم، يتهمون منتقديهم والمستفسرين بـ"العمالة للكرملين"، وبأنهم لا يدركون "حقيقة" أنه "لا يمكن فضح مصادر هذه المعلومات" التي تستقيها الاستخبارات البريطانية من أعلى الطوابق في هرم السلطة في الكرملين، التي يستحيل فضحها".
في الـ18 من مارس الجاري، نشر موقع Daily Wire فيديو لاجتماعات مؤتمر أمني في واشنطن، طرحت فيه على جون سكارليت رئيس جهاز الاستخبارات البريطانية "مي 6" السابق، جملة من الأسئلة عن "ملف ترامب الروسي"، وصاحب الملف كريستوفر ستيل، الذي كان في إمرة سكارليت، ومكلفا بالملف الروسي في الاستخبارات البريطانية.
وفي الفيديو، أحد الصحفيين الأمريكيين يسأل سكارليت: ماذا تقولون في "ملف ترامب الروسي"، وهل تصدقون بما هو مدوّن فيه، ليجيب سكارليت بلا تردد: "كلا... لا أصدق ما جاء في التقرير... اطلعت عليه، واعتقدت أنه بحث استخباري تجاري. لا أعرف مصادر هذا التحقيق، إذ قد تكون هذه المصادر صادقة، أو لا تكون. من الأرجح أن هذه المصادر قد تمت المبالغة في مصداقيتها، وعموما بالغوا في تصديق هذه المصادر".
وحول مدى فرص ثبوت الاتهامات الواردة في "الملف"، أجاب سكارليت بالنفي، رافضا التعليق على خصال ومناقب مأموره السابق صاحب "ملف" الاتهام لروسيا والرئيس الأمريكي بـ"التخابر".
وفي الإجابة على خاتم أسئلة الصحفيين الأمريكيين حول السبب الذي حمل ستيل على الاستناد في تقريره لـ"معلوات غير مؤكدة"، قال سكارليت: "هذه التقارير كانت استخبارية تجارية، وهذا كان واضحا بالعين المجردة. والسؤال: لم ظهرت هذه التقارير في الأماكن التي ظهرت فيها، ومن أين ظهرت، وما الجهة التي طلبت إعداد هذه التقارير؟".
السير سكارليت، جاسوس بريطاني رفيع، وتحلى بقدر عال من الشجاعة اللازمة والجرأة، لاعتبار تقرير ستيل مادة سياسية مدفوعة، والتصريح بأن الملف لا يستحق الثقة، وأنه لن يتم إثباته أبدا.
يشار إلى أن سكارليت، وقبل تعيينه رئيسا للاستخبارات البريطانية، عمل لصالح بلاده في موسكو، ويجيد الروسية بطلاقة، وكان بين المطرودين من روسيا في إطار الفضيحة الدبلوماسية الروسية البريطانية سنة 1994.
اللافت، أنه وبعد هذه التصريحات الصادرة عنه بصفته رئيسا سابقا للجاسوسية البريطانية، قد يتعرض سكارليت في بلاده للمساءلة على "عمالته" للكرملين، ولن تشفع له جميع خدماته السابقة التي قدمها للوطن.
ورغم أن معظم وسائل الإعلام الأمريكية، ولاسيما البريطانية ستتجاهل موقف سكارليت، فإن مجاهرته بموقفه تؤكد على الأقل، أن شريحة معينة من النخبة الأنغلوساكسونية، ترفض التظاهر بأنها تصدق الحكايا المعادية لروسيا، والمحبوكة على عجل لقاء مال واحدة من عائلات النخبة السياسية الأمريكية المتنفذة.
على روسيا ألا تتوهم أبدا بأن أصدقاء لها على الضفة الجيوسياسية المقابلة، حيث أن عودة النزاع لخط واشنطن - موسكو ضمن أطر ومعايير تتسم بنوع من العقلانية، وتعود لحقبة حرب القرن العشرين الباردة، ستكون أفضل بكثير من الجنون الشامل المعاصر، إلا أن ما يستحق الترحيب، هو أنه لا يزال في واشنطن ولندن من يدركون ذلك.
https://telegram.me/buratha