هل كان الانتحاري الذي قاد سيارة مفخخة مستهدفاً مبنى القنصلية المصرية في المنصور ببغداد في الرابع من نيسان الحالي يعرف شيئاً عن الدار المجاورة لها ، والتي جعل من مدخل /مرآبها/ طريقاً له نحو /هدفه/ او لمن تعود هذه الدار ؟ ومن هو صاحبها ؟ وماذا تحوي من كنوز فنية ونفائس أدبية ؟ وأي تراث شخصي وتاريخ ثقافي قد دمّر بفعله الإجرامي ويحرق كل شيء في الدار التي من بابها دخل ، من البشر الى الفن الى الثقافة ، وما هنالك من وثائق مهمة تمثل ذاكرة مرحلة من أهم مراحل الثقافة الحديثة ؟
الدار التي حوت هذا كله ، والتي جرى لها هذا كله ، هي دار الأديب والروائي الكبير جبرا إبراهيم جبرا الذي توفي عام 1994 ، وكانت تضم أعمالا فنية نادرة لكبار فناني العراق ، وآلاف الأوراق المخطوط منها والمطبوع ، والوثائق التي تمثل ذاكرة مرحلة لعلها من أخصب مراحل الإبداع وأكثرها غنى.
كانت الدار بعهدة السيدة /أم علي/ شقيقة زوجة ابنه /سدير/ الذي كان هاجر الى أستراليا في العام التالي لوفاة والده ، تاركاً الدار وما فيها في عهدة هذه السيدة الفاضلة التي بذلت جهدها للعناية بكل شيء يعود الى جبرا ، من اللوحات والأعمال الفنية التي علقتها بانتظام ، الى الأوراق التي صانتها من كل تلف أو عبث يمكن أن يلحق بها ، الى المكتبة الشخصية للراحل الكبير.
اما الان فان من يذهب الى الدار يجد كل شيء فيها ومنها ، قد تغير ، بل امحي وتحول ركاماً من الحجارة والتراب والرماد. فالدار تهاوت على ما فيها ، ومَن فيها ، والأعمال الفنية والكتب والورق بصفحاته التي تعد بالآلاف تحولت الى رماد .. وأعلى هذا الركام لافتة سوداء تنعى ام علي/ وابنها جعفر.
تقول جارة لها ان /ام علي/ لحظة وقوع الحادث كانت تجلس في تلك الغرفة الصغيرة ، على يسار الدار من ناحية المرآب ، وهي الغرفة المحببة الى جبرا والتي كان يحب أن يستقبل فيها الخاصة من أصدقائه ، فتهاوت عليها ، ولم يتمكنوا من انتشال جثمانها من تحت الركام إلاّ في اليوم التالي !
الشرطي في القنصلية الذي نجا من الانفجار باعجوبة ، وصف الحادث بانه مروع ، فالعصف شقق الارض وهدم الدار على ما فيها وقلع عين جاره الاخر الذي كان واقفا على مسافة بعيدة عن الانفجار ، مؤكدا انه " عمل همجي بامتياز ".
الناس الذين يمرون بالمشهد ويرون ما آلت إليه الدار من خراب كامل ، يمرون حزانى ويترحمون على الضحايا ، ولكنهم لا يعلمون شيئاً عما ذهب مع هذا الذي ذهب مما كان في داخل الدار ، وفي الممرات والغرف من أعمال فنية تجمع بين جواد سليم وشاكر حسن ومحمد غني حكمت ونوري الراوي وضياء العزاوي ورافع الناصري وراكان دبدوب وسعاد العطار وعشرات الأسماء الأخرى من فناني العراق ، من جيله ومن الآتين من بعد ذلك الجيل الرائد ، فضلاً عن أعماله هو.
كذلك كانت دار جبرا تحتضن أوراقا تضم ما كتب ولم يضمه في كتاب ، والمسودات التي تمثل الكتابة الأولى لرواياته وقصصه بوجه خاص ، فضلاً عن مئات الرسائل المهمة أدبياً من عشرات الأدباء والأصدقاء من عرب وأجانب ، وصورا عن رسائله التي كتبها لهؤلاء الأصدقاء منذ ثمانينات القرن الماضي وحتى يوم رحيله.
كان جبرا يقول أنه كتب ما لا يقل عن عشرة آلاف رسالة ، ولا بد أن يكون قد تلقى مثلها ! وكان دائماً يقول : أوراقي هنا في هذه الخزانة (متعددة الرفوف والأبواب) وقد رتبتها ضمن ملفات.
وكان يريد لهذه الدار ، داره التي رسم خريطتها بنفسه وأشرف على تنفيذها ، أن تكون /متحفاً/ له من بعد وفاته ، إلا أن شيئاً من هذا لم يحصل ! ومن بين ما ذهب مع ما ذهب صور فريدة ، وتسجيلات صوتية ، وأشرطة فيديو لندوات ولقاءات ومحاضرات كان يلقيها أو يشارك فيها ، وهي تمثل جزءاً من تراثه الأدبي والنقدي ، كان من المؤمل أن تكون المرحلة الثانية من /مشروع نشر أعماله الكاملة/ الذي تبنته /مؤسسة عبد الحميد شومان/ على عهد مديرها العام أسعد عبد الرحمن.
لكن المشروع أحبط في لحظة التنفيذ ، وها هو اليوم كل شيء يتداعى ويحترق : الدار بمن فيها وما فيها ، والنار التي عصفت بكل شيء وأتت على كل شيء ، مخلفة الرماد ، ولا شيء سوى الرماد من دار كانت مركز حيوية ثقافية على مدى نحو نصف قرن من الزمان . وكذلك الأمر مع مَن عرفت أهمية هذا كله فعنيت به وصانته طيلة السنوات الماضية.
فالدار اليوم لا باب لها فنقرعه ، ولم يعد في الدار من يرد ، ولا شيء في الدار يمكن أن نراه سوى أكوام الحجارة والرماد.. و/أم علي/ وابنها جعفر اللذان تحولا الى اسمين على لافتة سوداء ارتفعت فوق هذا الركام الذي كان قبل أيام /دار جبرا إبراهيم جبرا/!.
https://telegram.me/buratha