في الاسبوع الاخير من شهر اذار الماضي عقدت امانة بغداد المؤتمر الدولي الاول للحفاظ على مراكز المدن في العراق واستمر لمدة 5 ايام، بمشاركة 75 خبيرا
دوليا في تخطيط المدن بينهم عرب وعراقيون مغتربون. واذ جازف هؤلاء الخبراء بالحضور الى بغداد، حيث الوضع الامني الهش، فانهم لم يفوّتوا فرصة اكتشاف بغداد، ولو من خلال زجاج نوافذ السيارات المصفحة، كما يقول تيموثي ويليامز في النيويورك تايمز، اذ ربما يؤمن هولاء الخبراء في تخطيط المدن بمقولة المؤرخين العرب القدماء، التي مفادها " بغداد أم الدنيا وسيدة البلاد .. وان من لم يزر بغداد فلم ير الدنيا".
ولضمان استتباب الأمن في المدينة ولو لساعات قليلة، كما يقول تيموثي ويليامز، أقدمت السلطات على نشر كتيبة كاملة من الجيش العراقي والمئات من ضباط الشرطة ومجموعة من أفراد القوات الخاصة التابعين لوزارة الداخلية، وأقدمت على خطوة غير معتادة بإغلاق الجزء القديم من المدينة، لتمكين الخبراء من اكتشاف بغداد القديمة.
الوفد الزائر كان مؤلفا من نحو 75 من المهندسين المعماريين ومخططي المدن من الولايات المتحدة وفرنسا وإيران وإيطاليا واليابان ودول أخرى، احتشدوا، في اليوم الرابع، داخل 3 حافلات صغيرة محاطة بسيارات مدرعة تضم ضباط شرطة وعملاء للاستخبارات مدججين بالأسلحة، وانطلقوا في جولة عبر العجائب المعمارية والثقافية التي حرم معظم الأجانب من الوصول إليها على مدار عقود، في الوقت الذي غالبا ما يساور العراقيين خوف بالغ يحول دون زيارتهم إياها.
زحفت القافلة عبر شوارع بغداد أمام مبنى مجلس المحافظة ووزارة العدل، حيث أسفرت مجموعة من التفجيرات عن مقتل 155 شخصا في تشرين الأول الماضي. وأشار مرشد مرافق للزائرين إلى المباني المتهدمة من دون أن تبدو عليه علامات تأثر بالمشهد، بينما شرع المخططون والمهندسون المعماريون في التقاط الصور.
مع مرور الحافلات التي تقل الوفد عبر نقاط التفتيش في شوارع متكدسة بالمرور، حرص الأفراد داخل السيارات على إخراج رؤوسهم من نوافذ سياراتهم والإشارة بأيديهم نحو الحافلات، كما لو أن هذا سيجعل المشهد اللافت للانتباه أكثر واقعية، اذ ان من النادر رؤية أجنبي داخل بغداد من دون أن يكون مرتديا لزي رسمي أو يحمل سلاحا.
صاح سائق إحدى سيارات الأجرة باتجاه أعضاء الوفد متسائلا "من أنتم؟"، قبل أن يطلب منهم المرشد المرافق لهم إغلاق النوافذ من أجل تشغيل جهاز تكييف الهواء.
مثلما الحال مع جميع الأعضاء الآخرين تقريبا في الوفد، اعترف مارك سانتوس (49 عاما) وهو مهندس معماري يعمل لدى مجلس بلدية برشلونة، إن قلقا بالغا ساوره حيال الأخطار التي تنطوي عليها بغداد، لكنه قرر المخاطرة بالقدوم إلى المدينة التي ظلت محرمة فعليا لفترة من الوقت. وقال: "يخضع كل شيء لسيطرة شديدة، لكن أعتقد أن هذا أمر منطقي".
كانت محطة التوقف الأولى في المدرسة المستنصرية التي شيدت وفتحت أبوابها عام 1233 أثناء العصر الإسلامي الذهبي. وبعد 25 عاما من ذلك التاريخ، تعرضت المدينة للتدمير والنهب على يد هولاكو، حفيد جنكيز خان وشقيق قوبلاي خان.
وصعد أفراد المجموعة عدة سلالم في طريقهم إلى السطح. وتظاهرت سيدة شابة بأنها تسقط، مما كان سيمثل أسلوبا جديدا للموت في العراق. وعجز أفراد الشرطة المدججون برشاشات كلاشنيكوف وغير المعتادين على التعامل مع مثل هذه المواقف عن تحديد الصورة المثلى لما ينبغي أن يكون عليه رد فعلهم. وسأل أحدهم زميله: "هل ينبغي أن نصعد؟" وأجابه الآخر: "لا أدري". ورد الأول: "لا، أعتقد أنه ينبغي أن نتحرك".
وعلى السطح، أخرج أفراد الشرطة كاميراتهم والتقطوا صورا لأنفسهم بينما كانوا في واحدة من اللحظات النادرة التي يبتسمون خلالها.
أما المحطة الثانية فكانت السوق حيث تباع البسط والكتب والمصنوعات النحاسية - وهي مواد تشكل منذ أمد بعيد جزءا من هوية بغداد - علاوة على سلع أخرى. ومع سير السائحين في أحد الشوارع التي أخليت من المرور، احتشد الناس على الجانبين محدقين فيهم، لكن الشرطة حرصت على إبعادهم عن الزائرين وأبقت الجانب داخل نطاق حمائي.
وقال أحد السياح: "بدا الأمر كما لو كنا فرقة سيرك".
داخل سوق الصفافير الذي ألهم الخليل الفراهيدي علم العروض، وحيث التحف والمصنوعات النحاسية، ترك صوت الطرق على النحاس أصداءه بمختلف أرجاء المكان، لكن المكان برمته كان قد أخلي من المتسوقين، وبالتالي جرد من جزء كبير من طابعه المميز. أطل التجار من خارج أكشاكهم ليحدقوا في الأجانب الزائرين، لكنهم لم ينبسوا ببنت شفة، رغم اعتيادهم الثرثرة وتجاذب أطراف الحديث.
أخيرا، قال أحد الباعة: "نحب الزائرين. ونحن بحاجة للمزيد منهم".
ومن سوق الصفافير زحف الوفد الى شارع المتنبي، حيث سوق بغداد للكتب، حيث تعرض الكتب للبيع على مناضد قائمة على الأرصفة، وقليلا ما توجد داخل مكتبات متخصصة في بيع الكتب. وتتنوع محتويات الكتب ما بين القرآن الكريم ووصفات للطهي، وفي بعض الأحيان توضع هذه الكتب بجانب بعضها مع بعض. من جانبها، علقت نادية نيلينا، مهندسة معمارية من روتردام، بقولها: "كان الجو العام أكثر إيجابية مما توقعته".
لكن هل شعرت بالأمان هناك؟ أجابت نيلينا: "لقد أحاطتنا دوما إجراءات أمنية مشددة".
داخل "القشلة" وهو المقر الرئيسي الإداري للحكومة العثمانية في بغداد منذ قرن مضى، انهمك السائحون في التقاط الصور. وفي أحد الجوانب، عمد حارس أمن إلى الوقوف أمام لافتة معدنية تشير إلى أن المباني جرت إعادة ترميمها في عهد صدام حسين.
مع اقتراب الجولة من نهايتها، كان مايكل بيرسون (77 عاما) وهو مهندس معماري من عائلة تتميز بثلاثة أجيال من المهندسين المعماريين في لندن، يجفف عرقه. على خلاف الحال مع معظم أفراد المجموعة، سبق لبيرسون زيارة بغداد، لكن منذ 30 عاما. وعلق بيرسون على وضع المدينة بقوله: "تبدو منهكة للغاية بعد ثلاث حروب. إنه أمر محزن".
وفي مقهى "الشابندر"، ملتقى المثقفين، جلس رجال يحتسون شايا محليا ويدخنون النرجيلة. وعج الجدار بصور بالأبيض والأسود لبغداد في أوج مجدها. أعرب غاري راسل، مهندس معماري من "لجنة بوسطن للمعالم"، عن دهشته من الهدوء الذي غلف معظم أرجاء المدينة مساء، الأمر الذي يرجع بطبيعة الحال إلى حظر التجول المفروض ليلا. وأضاف: "الأضرار ليست واسعة النطاق بالدرجة التي تخيلتها. لا يراودك شعور بأن هذا المكان خطير على خلاف ما كان عليه الحال منذ سنتين أو ثلاث سنوات".
وفي "المتحف البغدادي"، هناك لوحة على الجدار تحمل عبارة مأثورة على لسان فيلسوف وشاعر عاش في القرن الحادي عشر، أبو العلاء المعري، تقول: "من عاش ومات في بغداد، فكأنما انتقل من جنة إلى جنة". في الداخل، عكف المهندسون المعماريون ومخططو المدن على تناول الغداء، وربما راودهم التفكير في سبل لجعل هذه العبارة حقيقة. وفي الخارج، عمدت مجموعة من أفراد الشرطة والجنود على إبقاء أهل المدينة بعيدا عن المكان.
https://telegram.me/buratha