بقايا المفخخات
وسط تساؤلات وحيرة المارة أُنزلت أنقاض السيارتين وسط الساحة لتضفي على المكان الضاج بالحركة والحيوية غلالة من الكآبة والحزن. نـُصبت أمام السيارتين منصة صغيرة صعد عليها الصحفي الهولندي يوستوس فان اول ليشرح للجمهور الذي بدأ يتجمع حقيقة الأمر: هاتان السيارتان قتلتا عشرات العراقيين، في شارع المتنبي وفي سوق بغدادية أخرى. إنهما سلاح الإرهاب وأداة العنف الأعمى، سائقا السيارتين ذهبا إلى جنتهما وأخذا معهما عشرات الأرواح التي لم تكن راغبة في الذهاب إلى الجنة، بل كانت تأمل بالعودة إلى المنزل والأسرة بعد ساعات من العمل أو التسوق.
تفجير الذكريات
أول المتحدثين إلى الجمهور، كان الفنان المسرحي العراقي المقيم في أمستردام، صالح حسن فارس.. بحركة مسرحية مثيرة قفز بين السيارتين ليفتش بين مجموعة من الكتب المتناثرة هناك. التقط من بينها ديوان بدر شاكر السياب وأخذ يقرأ بالعربية مقاطع من "أنشودة المطر". بعد ذلك تحدث إلى الجمهور باللغة الهولندية عن زيارته الأخيرة إلى بغداد التي عاد منها قبل أسابيع. عن الخوف والحزن والقلق الذي يطبع حياة الناس اليومية، ولكن أيضاً عن الإصرار المتجذر في النفوس على مواصلة الحياة والإبداع رغم الإرهاب والعنف.. تحدث أيضاً عن ذكرياته مع شارع المتنبي وباعة الكتب فيه، وعن الأحلام الكبيرة التي كان يحملها رواد هذه السوق وكيف جاءت سيارة مفخخة بالحقد والكراهية لتجعل من تلك الأحلام كابوساً مرعباً.توالى المتحدثون بعد ذلك على التعبير عن مشاعرهم إزاء هذا المشهد المرعب، مشهد السيارات المفخخة التي تقتل الناس في صراع عبثي لا تبدو له نهاية في الأفق القريب.
الكاتب الهولندي المعروف "كريس كولمانس" الذي قضى أربع سنوات من طفولته المبكرة في بغداد، حيث كان والده يعمل هناك في الستينات، ذكـّر الحاضرين بأن الكتابة وجدت للمرة الأولى في العراق، وأنه هو شخصياً تعلم الحروف الأولى في العراق. أخبر الحاضرين أيضاً عن العبارة التي كانت شائعة في العالم العربي عن القاهرة التي تؤلف الكتب وبيروت التي تطبعها وبغداد التي تقرأ، وكيف أن الأخبار القادمة من العراق تؤكد أنّ أعداد الكتب الجديدة في العراق في تزايد، كما يتزايد نهم القراء في بغداد لمتابعة كل جديد. قال كولمانس إن الكتب خالدة لأن مؤلفيها صبورون وغير متعجلين، أما الانتحاريون الذين فجروا أنفسهم في سوق الكتب أو في أماكن أخرى فهم عابرون، لأنهم يستعجلون الوصول إلى الجنة.
رسالة من بغداد
المتحدث باسم الجهات المنظمة، تحدّث عن الجهود الكبيرة التي بذلتها المنظمة الطلابية الديمقراطية في جامعة بغداد، وهي الجهة التي تعاونت في تنظيم أمر نقل السيارتين وإخراجهما من بغداد. قال إن الطلبة البغداديين يوجهون لنا رسالة من خلال هاتين السيارتين: هذا المشهد الصادم لسكان أمستردام، هو جزء بسيط من مشهد يومي في بغداد، فلتكن هذه الأنقاض التي ترونها الآن في قلب العاصمة الهولندية محفزاً للتفكير بمصائر الأبرياء في بغداد، ومحفزاً للفعل أيضاً، الفعل مهما كان من أجل عالم بلا سيارات مفخخة.بعد أكثر من ساعة من الأحاديث المثيرة للمشاعر انفض المجتمعون، ونـُقلت بقايا السيارتين إلى المتحف الحربي الهولندي. المهتمون توجهوا بعد ذلك لحضور نقاش موسع حول العراق والشرق والأوسط في قاعة "ميلك فيخ" التي تقع على مرمى حجر من الساحة التي عرضت فيها الأنقاض.
https://telegram.me/buratha