اجمع العديد من المراقبين ان عملية كتابة الدستور في العراق والتصويت عليه من قبل الشعب العراقي سيؤثر على باقي الدول العربية معتبرين انه سيكون منهجا ومنارا يحتذى به وها هي ليبيا تتجه على ما يبدو إلى صياغة دستور جديد وسط جدل عنيف حول ما إذا كان الدستور الذي يتبناه سيف الإسلام، النجل الثاني للزعيم الليبي العقيد معمر القذافي، سيلبي مطالب المعارضة الليبية في الخارج أم يكتفي بتكريس هيمنة القذافي الأب على الدولة التي يحكمها منذ 39 عاما.
وقالت مصادر ليبية مطلعة لـ«الشرق الأوسط» إن الدستور، الذي تعكف حاليا لجنة حكومية على دراسته في سابقة هي الأولى من نوعها منذ إلغاء القذافي للدستور عقب توليه السلطة عام 1969 إثر الإطاحة بنظام حكم العاهل الليبي الراحل إدريس السنوسي، سيتم طرحه رسميا على المؤتمرات الشعبية الأساسية (المحليات والبلديات) لمناقشته تمهيدا لجمع ملاحظاتها بشأنه، ورفعها في سبتمبر (أيلول) من العام المقبل إلى مؤتمر الشعب العام (البرلمان) الذي يعتبر أعلى سلطة تشريعية في النظام الجماهيري الذي دشنه العقيد القذافي عام 1977 لإقرار النسخة النهائية للدستور.
ويدور منذ عدة أشهر جدل شبه معلن بين مختلف القوى السياسية الفاعلة في ليبيا بشأن جدوى وضع دستور جديد للبلاد سبق أن دعا إليه سيف الإسلام في شهر أغسطس (آب) من العام الماضي. ونشرت صحف محسوبة على نجل القذافي مسودة لمشروع الدستور الجديد لكنها سرعان ما سحبتها بعد انتقادات عنيفة وجهها قياديون في حركة اللجان الثورية المتشددة والمعروفة بأنها تمثل العمود الفقري للنظام الليبي بسبب معارضتهم لأي محاولة للتغيير والإصلاح أو إعادة صياغة علاقة المواطن بالدولة في ليبيا. ويتكون مشروع الدستور المقترح للدولة الليبية، الذي حصلت «الشرق الأوسط» على نسخة منه، من ديباجة و165 مادة أساسية موزعة على ثمانية فصول، لكنه في المقابل يصر على أنه لا تغيير حقيقي في شكل الدولة الليبية أو طبيعة نظام الحكم القائم فيها. وتؤكد ديباجة المسودة أن «مجتمع الليبيين مجتمع الحرية، والمساواة، وحكم القانون، والإبداع، والتألق، يتمتع فيه الجميع، دون أي تمييز، بحق الحياة، والحرية، والأمن، والطمأنينة»، كما تعلن «تمسك المجتمع الليبي بالدين الإسلامي الحنيف، ونبذ العدوان، والحرب، والاستغلال، والعبودية، والإرهاب»، وتشدد على «قيم العدالة، والتساوي أمام القانون».
وتنص المادة الثانية من الأحكام العامة للدستور الجديد على أن «القرآن الكريم شريعة المجتمع، والإسلام دين الدولة»، وأن «اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة». وتحدد المادة الثالثة نوع نظام الحكم في ليبيا على أنه نظام جماهيري، السيادة فيه للشعب، ويحظر تعطيل سلطة الشعب»، وهو ما يعد امتدادا لنظام «السلطة الشعبية المباشرة» القائم، فيما تعتبر المادة الخامسة أن الميثاق الوطني (الدستور) هو المرجعية القانونية العليا، التي تبنى عليها التشريعات ويعد باطلا كل قانون يخالف أحكامه.
وتنص المادة الرابعة من المسودة على أن «العقيد معمر القذافي، رمز وطني لا يتكرر»، وهو ما يعني عدم إمكانية مغادرة القذافي السلطة طواعية أو عبر الانتخابات الديمقراطية ويتماشى مع الخطوط الحمراء التي طرحها نجله العام الماضي (الشريعة والأمن والقذافي والحدود) وقال انه لا ينبغي مطلقا المساس بها. وتقتصر الإصلاحات السياسية في المشروع المقترح على عملية الاقتراع السري داخل صناديق المؤتمرات الشعبية الأساسية، ومنح صلاحيات واسعة لمجلس القيادة الاجتماعية، وطرح قوانين تنظم حالة الطوارئ في البلاد، وإنشاء محكمة دستورية، وإلغاء المحاكم الاستثنائية. ويخلو الدستور الجديد من أية مواد مباشرة أو ذات صلة بمفهوم نظرية السلطة الشعبية المباشرة التي يدير بها القذافي شؤون البلاد.
وكان عبد الرحمن بوتوتا رئيس اللجنة المكلفة صياغة الدستور الجديد قد أعلن في تصريحات صحافية له أمس أنه تمت إحالة مشروع الميثاق الوطني الجديد إلى لجنة شكلت من خبراء قاموا بصياغة عدة مقترحات لميثاق وطني للبلاد وستقوم اللجنة الحالية الآن بمراجعته وتنقيحه من الناحية القانونية، مشيرا إلى أن العمل على هذا المشروع انطلق منذ 3 سنوات تحت رعاية سيف الإسلام القذافي. وأعلن بوتوتا أن «عمل اللجنة لم ينطلق من فراغ بل لديها مرجعيات أساسية تتمثل في وثيقة سلطة الشعب والوثيقة الخضراء لحقوق الإنسان والكتاب الأخضر للعقيد القذافي الذي يستند إليه نظام الحكم في ليبيا». وتتعرض تركيبة اللجنة المكلفة بصياغة الدستور لمشاكل مكتومة وفقا لما قالته مصادر بداخلها لـ«الشرق الأوسط»، مشيرة إلى أنه كان قد تم في نهاية الشهر الماضي وبشكل مفاجئ إعفاء رئيسها السابق الدكتور يوسف صوان من عمله وتعيين بوتوتا خلفا له. ومع ذلك فان تعيين الأخير قوبل ـ وفقا لمصادر ليبية ـ بارتياح كونه رئيسا للمحكمة العليا، ومن القضاة المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة.
يشار إلى أن سيف الإسلام القذافي الذي عاد إلى بلاده قبل بضعة أيام قادما من جولة مطولة في الولايات المتحدة دامت 3 أسابيع، زار خلالها للمرة الأولى البيت البيض ومقر وزارة الخارجية الأميركية، توقع في مقابلات مع وسائل إعلام أميركية صدور دستور يمهد الطريق لانتخابات ديمقراطية، بالإضافة إلى إدخال تعديلات على الحكومة المركزية في ليبيا لتتبنى نظاماً مشابهاً لذلك المعمول به في الولايات المتحدة والذي يرتكز على حكومة اتحادية، مع وجود حكومات محلية وإقليمية قوية.
واعتبر نجل القذافي أن معركته الثالثة ستتمثل في «أن يكون هنالك دستور للبلاد».
وردا على سؤال بشأن التكهنات بأنه سيخلف والده في سدة الحكم، قال نجل القذافي «لقد وصلتكم الإجابة.. الدستور والديمقراطية والانتخابات، مثلنا في ذلك مثل أي بلد آخر» وأضاف «إذا ما قمنا بجعل كافة الأمور تدور حول رجل واحد أو عائلة واحدة أو مجموعة من الأشخاص، فإن الأمور لن تسير على ما يرام». لكن معارضين ليبيين في الخارج قالوا في المقابل إن انسحاب نجل القذافي ثم إطلاق مشروع الدستور الجديد كلها أفكار غير عملية لا تصبُّ في خانة تحقيق المصالحة الوطنية المطلوبة وبدء عهد جديد من الديمقراطية واحترام الحريات والحقوق العامة لمن يختلفون مع النظام الحاكم في ليبيا.
وما زال الناشط الليبي، فتحي الجهمي، الذي دعا القذافي في خطابات شخصية قبل سنوات إلى إعادة كتابة الدستور الليبي، وعقد مؤتمر وطني للمصالحة، قيد الاعتقال وفي ظروف معيشية صعبة للغاية رغم كل المطالبات الدولية بإطلاق سراحه نظرا لتردي أوضاعه الصحية.
https://telegram.me/buratha