رياض البغدادي ||
نعم .. لا تخلطوا بين المفاهيم، وأعلموا أن المدنية هي البناء المادي لكل ما يوفر للإنسان الحياة الأفضل ، والعيش الكريم ، من صحةٍ وسكنٍ وتعليم ...
اما الحضارة ، فهي مفهوم آخر مرتبط بجانب القِيَم الأخلاقية والروحية للإنسان ...
القِيَم التي تميزهُ عن الحيوان ، وتجعل منه إنساناً كاملاً تطمح الأديان جميعها للوصول الى كماله ، هكذا قال الله تعالى ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) خليفة يحمل منظومة القِيَم ، ليبني الحياة التي ترتبط بالأرض في شقها المادي ، وترتبط بالسماءِ في شقها الروحي ...
فلا المدنية وحدها قادرة على صنع الانسان الكامل ، ولا الحضارة وحدها تستطيع ذلك ، فالانسان المتخم بمنظومات قِيَمية متعددة ، سيكفر بها يوماً ما ،يكون فيه غير قادر على بناء مسكن يضم فيه اسرته ، وتوفير المال الذي به يدفع عن صغارهِ المرض والجوع والجهل ...
اليوم في العراق يعيش المواطن مشتتاً بين طموحه للوصول الى الحضارة ، وسعيه للوصول الى المدنية ، وهو لا يدرك خطورة هذا الفصل بين الحضارة والمدنية ، فالكثير منا يتصور أن هناك بوناً شاسعاً بينهما ، فلطالما سمعت بعض الفقراء متذمرين ممن يقدم لهم النصيحة الدينية والاخلاقية ، وبكل جرأة يقول لك ( وفر ليَ الخبز ، وفر ليَ المستشفى ، وفر ليَ الشارع والمدرسة وبعد ذلك حدثني عن الصدق والامانة والعفة ... )
ولا يعلم المسكين ، أن فقدانه للشارع والمدرسة والمستشفى ، إنما كان سببه ، ضياع القِيَم الروحية ومنظومة الاخلاق ، التي بفقدها حولت المسؤول الى وحشٍ كاسر ٍ، لا يردعه دينٌ عن السرقة ، ولا تمسكه قِيَمٌ عن التجاوزِ على حقوقِ الناس ...
إننا نعيش أزمة قِيَم يا إخوان .. ولا تغرنَّكم العناوين التي يَتّخَفى خلفها الفاسد في هذه الدولة ، التي أصبحت العبءَ الثقيل على المواطن بدلاً عن أن تأخذ بيدهِ الى التقدم المدني والحضاري ..
لابد أن نعلم ان هناك بَوْناً شاسعاً بين الحزب الذي لابد من وجودهِ للوصول الى ديمقراطيةٍ حقيقيةٍ صحيحة ، وبين أعضاء الحزب ، الذين هم أشخاص تؤثر فيهم نزعاتهم الشخصية ، وقد تطغى على مجمل أفعالهم ، وتبعدهم عن شعارات أحزابهم التي كلها خير ومحبة وصلاح ...
من هنا ، يجب على الإنسانِ الواعي أن يكون حذراً في إختياراته .. فالقومي ، عليه أن لا يتصور أن اعضاء الأحزاب القومية بالضرورة يحملون أفكار ذلك الحزب ، المدونة في نظامهِ الداخلي ، وكذلك الإسلامي ، عليه أن يختار الشخص الذي يراه صادقاً في مسيرته الاسلامية ، من خلال مواقفه وافعاله ، ولا يكتفي بشعارات الحزب الذي ينتمي له ، وهذا ينطبق على الاحزاب المدنية وغيرها ...
من نافلة القول لابد من الإشارة الى ( النجاح ) النسبي الذي حققه الغرب في الدمج بين المدنية والحضارة ، ويتلخص نجاحهم في قرارهم الجريء ، في عدم الإكتفاء بالرادع النفسي لتهذيب الأخلاق ، ذلك لأنهم علموا من خلال تجارب الأُمم وحياة الشعوب ، أن الرادع النفسي مهما كان قوياً ، لابد أن تصيبه نزعات من الضعف ، يتخلى فيها الإنسان عن قِيَمِه الروحية ، لتجذبه الى أفعال مناقضة ، تبعده عما درج عليه لعشراتٍ من السنين ، التي بذل فيها الكثير من الجهد لبناء تلك المنظومة القِيَمية في شخصيته ...
لذلك حوّلَ الغرب منظومة الأخلاق ، الى قانون تعاقب عليه الدولة ( المخالف ) بغرامات وأحكام تصل في بعضها الى السجن ..
فالكذبة مهما كانت صغيرة ، هناك عقوبة لمرتكبها فيما لو قرر المتضرر منها الشكوى لدى المحاكم ..
وبهذا ، أصبح القانون بمثابة سيف مسلط على رقاب الناس ، يسوقهم الى جهنم مبكرةٍ أشعلها القانون ، لكل متجاوز على منظومة القِيَم التي يراها الغرب ( متكاملة ) وان كنا نرى فيها الكثير من التناقضات ...
ترى ..!
هل ستعمل الدولة في العراق على تصحيح قوانينها ، والإستفادة من تجربة الغرب في الحفاظ على منظومة الإخلاق ؟ أم انهم سيكتفون بنقل كهرباء سيمنس وأدوية باير ولا يهتمون لبناء الانسان وترميم ماخربه البعث المجرم من منظومة الاخلاق في مجتمعنا العراقي المظلوم ؟