المقالات

التشيُّع في وجدان الأمّهات مقياسًا وميزانا  

1288 2020-08-08

حازم أحمد||

 

ما هو معيار الصدق عند الذين يَظهرون لنا هذه الأيام ليعلنوا براءتهم من التشيُّع؟

وإلى أي مدىً هم شيعةٌ فعلًا؟ وكيف نقيس حقيقة تعلقهم في التشيُّع وفي محمد النبي وآله الأطهار؟

وما هذا المستوى من المشكلة أو الصدمة التي يدّعون بلوغها؛ وكشفت لهم عن حقيقة أسمى وأنبل وأقوم من التشيُّع، وبأنّ التشيُّع لا يستقيم في ميزان الحق يومًا؟

سنسبر أغوار مفهوم الحب والتعلق من خلال أعظم قيمة فرضها الله سبحانه وتعالى على بني آدم وهي (الوالدِين، الآباء) في القصص القرآني، وسنميل أكثر إلى (الأم) لأنها بطبيعة تكوينها وثقل العاطفة المغموس بها قد يجعلها هذا مستعدة في نسبة ما للتخلي عن هذا المبدأ وغيره بسبب نزوعها المستمر نحو الحفاظ على أولادها، وقد يكون الأب يمتلك من الصلابة ما يجعله أكثر ثباتًا؛ فعندما نختار (الأم) فإننا ندخل أخطر وأعمق مناطق التحدي في هذه المسألة، ومِنْ ثَمَّ نعطف إلى قصصنا العراقية.

ملحوظة:

كلمة: أولاد، تعني: الذكور والإناث.

أولًا: قَصَص القرآن الكريم

{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}

(القصص: 10)

{وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ}

(يوسف: 84)

هذان أبوان لنبيين: أمُّ موسى (ع)، وأبو يوسف (ع)

ينقل لنا القصص القرآني شِدَّة العلاقة بين الأولاد والآباء تكوينًا واعتبارًا، هكذا جُبِلَ الآباء على حُب أولادهم دون حَدٍّ يوقف هذا الحُب، فهذه أُمّ موسى عندما ألقت طفلها في اليَم خوفًا عليه من القتل؛ عصفت بها مشاعر الأمومة ودبَّ في جسدها الرُّعب، ولم تستطع الالتزام بهذه الخطة التي تتطلب صبرًا ووقتًا وطاقةً للتحمل، فاختارت إلغاءها والتمسّك باللحظة الآنية مع طفلها؛ فكل لحظة هي عالمٌ من الحب والشوق بينهما، وكادت لتكشف الخطة لو لا التدخُّل الإلهي لطفًا ورحمةً بها وبطفلها؛ وربط الله سبحانه على قلبها فهدأت وكانت من المؤمنين.

ثم يرجعه الله سبحانه إلى إليها:

{إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ ۖ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ... }

 (طه: 40)

هكذا: كي تقرَّ عينها ولا تحزن، فأي مكانة للأم عند الله سبحانه وتعالى؟!

أما في قصة يوسف وأبيه يعقوب فإنّ الحزن الذي جثمَ على صدر النبي يعقوب (ع) بسبب فقده واشتياقه لابنه يوسف أفقده البصر، وما شُفِيَ إلا بعد أن ألقى البشيرُ قميصَ يوسفَ على وجه يعقوب المبارك.

في سورة المعارج نقرأ:

{... يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ (14)}

(المعارج: 11-12-13-14)

معلوم لنا أن الله سبحانه ذكر هذه الأفراد والجماعات التي تتدافع في ذهن المجرم عندما يرى العذاب؛ فيودّ لو أن فردًا أو جماعةً منها تفديه من ذلك العذاب، ذكر هذه الفئات وصلة القرابة كلها، لكن المجرم هذا الذي لا يتمتع بأيّ معيارٍ قيمي ولا أخلاقي ولا إنساني؛ هو مستعد للتضحية بصاحبته وبنيه وفصيلته ومن في الأرض جميعًا، لكن لماذا لم نجد في أمنية هذا المجرم أنه يود التضحية بالوالدين أو الأبوين؟

هو كما قلنا لا يمتلك تلك المعايير، لكنه الله سبحانه يفرض مكانة الوالدين والأبوين على كل أهل الأرض فرضًا، وهذا المجرم هو باقٍ في دائرة إمكانية المغفرة لكنه لو خطر في ذهنه أن يضحي بوالديه أو أبويه فداءً له لكان الله سبحانه أخرجه من تلك الدائرة فورًا ولأَكبَّهُ على وجهه في العذاب ليس بخارجٍ منه!

فالمجرم يومئذٍ تُكشف له مكانة الآباء عند الله (الأب والأم) يوم القيامة، ومِنْ ثَمَّ لا مجال لأن يخطر في ذهنه أن يفتدي نفسه بهما.

نعم آية (يوم يفر المرء... ) هي غير أن يفتدي؛ لأنّ الفرار هو تحقيق للقانون الطبيعي في إحدى مراحل يوم القيامة، اقرأ الآيات المباركات:

{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ... } (الأنعام: 94)

{وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} (مريم: 95)

أما بعد انتهاء مرحلة الحساب فيدخلون جماعات كُلٌ إلى استحقاقه: إمّا مثوى المتكبرين أو الجنة هي المأوى.

ثانيًا: قصَصُنا في العراق

أكبر المقولات الشعبية كذبًا وزورًا وبهتانًا هي:

(محد يموت وره اليموت)!

نعم، فهذا تزييف وإهمال لقصص تتعلق بآلاف الآباء والأمّهات الذين ماتوا بسبب فقدهم لأحد أولادهم؛ إعدامًا على يد الطاغية المقبور صدام وشرذمته، أو في معركة، أو حادث إرهابي جبان، أو حادث طبيعي، أو مرض طارئ...

الآباء عندما يفقدون أحد أولادهم فإنهم يتهدمون من الداخل، وتُكسر أنفسهم وقلوبهم وجوارحهم ولا تُصلح بعدها أبدًا، وغالبًا يؤدي ذلك إلى موتهم، لأنّ جذوة الحياة وأسباب السعادة قد انطفأت في مهجهم وأعينهم للأبد!

معاناة العراقيين على طول التاريخ لأنهم (شيعة)، وفي زمن الطاغية صدام كان على الأمّهات والآباء تقديم لائحة البراءة من آل محمد، أي: ترك التشيُّع فقط حتى يأمنوا شرّ الطاغية المتجبِّر، ويضمنوا الحفاظ على أغلى وأثمن الموجودات عندهم في العالم وهم (أولادهم)، وإلّا ما معنى أن يمنع حزب البعث زيارة أربعينية الإمام الحسين، لكن نجد الأم تجازف بالذهاب مع أولادها!

الآن كم قصة في تاريخ العراق من زمن الطاغية صدام إلى مرحلة الإرهاب الدولي (ISIS) تكشف براءة أمٍّ وأبٍ من خط آل محمد، مِن اسم فاطمة الزهراء، من الحسنين... واعتنقوا عقيدة معاوية ويزيد؟!

لماذا لم يحدث هذا الأمر مطلقًا؟!

آلاف الأمّهات رأيناها في الجمهورية الإسلامية ولبنان ينثرن الأرز والورود على نعوش أبنائهن الشهداء على درب الإمام الحسين (ع).

في العراق دُفِنَت الآلاف من عوائل الشيعة في قبور جماعية وهي على قيد الحياة، مئات الأمّهات رأيناهُنّ يُحيّينَ نعوش أبنائهنّ بالتحية العسكرية وبالهلاهل والورود.

هنا أسّ المسألة، وجذرها، وفَنَنُها، وحقيقتها؛ هذه العلاقة المتأصلة تكوينًا بين الأم وولدها لم تسمح للأم أن تتبرَّأ من التشيُّع حفاظًا على حياة أولادها، بل لم نسمع حتى هَمْسَ كلمة من أمٍّ في هذا الشأن!

فالمعيار الحقيقي للحُب والتشيُّع والتنازع والصراع بين قيمتين عظيمتين وأي القيمة تُقدِّم وأيها تؤخّر؛ هذا كله نستلهمه وندرسه ونتلوه من الأمّهات والآباء، الأمّهاتُ أوْلاتُ أعمق المشاعر والعواطف وشِدَّة التعلق بأولادهن، والآباءُ أوْلُو أعظم الصدق والعشق والولَه لأولادهم.

أما أنْ يأتيَ اليوم مَن يدّعي التشيُّع ويُعلن براءته من التشيُّع؛ فنحن نسأله أنْ يا هذا ما هي درجة التشيُّع عندك على مِقياس تشيُّع الأمّهات؟!

وما هو وزن المشكلة التي أثقلت عليك التشيُّع على كفَّة ميزان الأمّهات؟!

عندها يظهر لنا ضعف الطالب والمطلوب، ولا قيمة لهذه الدعوات الفارغة والبائسة والفاسدة دون محتوىً أصلًا، فهي لا تساوي شيئًا على مقياس الأمّهات، ولا تزنُ شيئًا في ميزان الأمّهات، الصدِّيقة زينب بطلة كربلاء بعد فقدها لإخوانها، وسبيها تقول: (ما رأيتُ إلا جميلًا!)

أم البنين عند إبلاغها خبر استشهاد أبنائها تقول للنّاعي: (سألتكَ عن ولدي الحسين!)

فكيف نترك التشيُّع؟! وإلى أين الوِجْهة؟!

وأختمُ في بيتي هذا:

مِثْلُ البعوضةِ حطَّتْ فوق نخلتِنا

طارتْ وتنظُرُ فِعْلَ الجُّنحِ بالأثرِ!

 

والحمد لله ربِّ العالمين

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
ابراهيم الجليحاوي : لعن الله ارهابي داعش وكل من ساندهم ووقف معهم رحم الله شهدائنا الابرار ...
الموضوع :
مشعان الجبوري يكشف عن اسماء مرتكبي مجزرة قاعدة سبايكر بينهم ابن سبعاوي
مصطفى الهادي : كان يا ماكان في قديم العصر والزمان ، وسالف الدهر والأوان، عندما نخرج لزيارة الإمام الحسين عليه ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يكشف عن التعاقد مع شركة امريكية ادعت انها تعمل في مجال النفط والغاز واتضح تعمل في مجال التسليح ولها تعاون مع اسرائيل
ابو صادق : واخیرا طلع راس الجامعه العربيه امبارك للجميع اذا بقت على الجامعه العربيه هواى راح تتحرر غلسطين ...
الموضوع :
أول تعليق للجامعة العربية على قرار وقف إطلاق النار في غزة
ابو صادق : سلام عليكم بلله عليكم خبروني عن منظمة الجامعه العربيه أهي غافله ام نائمه ام ميته لم نكن ...
الموضوع :
استشهاد 3 صحفيين بقصف إسرائيلى على غزة ليرتفع العدد الى 136 صحفيا منذ بدء الحرب
ابو حسنين : في الدول المتقدمه الغربيه الاباحيه والحريه الجنسيه معروفه للجميع لاكن هنالك قانون شديد بحق المتحرش والمعتدي الجنسي ...
الموضوع :
وزير التعليم يعزل عميد كلية الحاسوب جامعة البصرة من الوظيفة
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
يوسف عبدالله : احسنتم وبارك الله فيكم. السلام عليك يا موسى الكاظم ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
زينب حميد : اللهم صل على محمد وآل محمد وبحق محمد وآل محمد وبحق باب الحوائج موسى بن جعفر وبحق ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
دلير محمد فتاح/ميرزا : التجات الى ايران بداية عام ۱۹۸۲ وتمت بعدها مصادرة داري في قضاء جمجمال وتم بيع الاثاث بالمزاد ...
الموضوع :
تعويض العراقيين المتضررين من حروب وجرائم النظام البائد
فيسبوك