الشيخ الدكتور عبدالرضا البهادلي ||
الله تعالى منزه عن العبثية فقد خلق الله في هذا الكون الفسيح انواعا من المخلوقات ، فلم يخلق الاشياء في هذا الكون والوجود للعب واللهو والعبث حيث يقول : (وَما خَلَقنَا السَّماءَ وَالأَرضَ وَما بَينَهُما لاعِبينَ) ([1]) . وقال تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) ([2]) .
ولأجل ذلك طالما يسأل الكثير من الناس عن الغاية من خلقهم ووجودهم في هذه الحياة وما هي مهمتهم ودورهم ، ويمكن الاجابة عن ذلك بعد اجوبة فلا يمكن تحديد الغاية من خلق الانسان بهدف واحد وغاية واحدة ،وهي كما يلي .
اولا : معرفة الله تعالى : الهدف الاول من خلق الانسان هو معرفة الله تعالى عن طريق معرفة الكون واستشراف أسراره وإبداعات الخالق فيه، وما احتواه من ملايين المجرّات، وما أودعه من ملايين النّجوم في كلّ مجرّةٍ، وما بينهما من عجائب لا يمكن وصفها . كما قال تعالى :الَّذي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى في خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ([3])
ولذلك في الحديث القدسي يقول تعالى (كنت كنزا مخفيا فأحببت ان اعرف فخلقت الخلق لكي اعرف) ([4]) وقد قال امير المؤمنين عليه السلام : (اول الدين معرفته ) ([5]) .
وقال صدر المتألهين الشيرازي (رض) : “وكل الشرائع جاءت لكي تسوق الخلق إلى جوار الله تعالى وسعادة لقائهِ والارتقاء بهِ من حضيض النفس إلى ذروة الكمال ومن هبوط الأجسام الدنية إلى شرف الأرواح العلية وذلك لا يتيسر إلا بمعرفةِ الله تعالى” ([6]) .
ثانيا : العبادة الواعية : والعبادة الواعية نتيجة المعرفة ، فكلما زادت معرفة العبد بربّه توجه نحو الله تعالى بالطاعة والعبادة الواعية ، والعبادة النابعة عن المعرفة تختلف عن العبادة التي ورثها الانسان بالتقليد عن آبائه واجداده .
والعبادة الواعية النابعة عن المعرفة تجعل الانسان يعيش اللذة والحلاوة والطمأنينة وراحة القلب ولأجل ذلك كان يقول رسول الله صلى الله عليه واله عند دخول وقت الصلاة (قم يا بلال فأرحنا بالصلاة) ([7]) ، وكذلك يقول ( جعلت قرة عيني في الصلاة ) ([8]) ، وهكذا بقية العبادات من الصوم والحج والخمس والزكاة والامر بالمعروف والنهي عن المنكر فعندما يكون الانسان عارفا بالله تعالى يتحرك في دائرة رضا الله لتنفيذ ما يريده الله تعالى .
يقول تعالى (وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون) ([9])
ويقول الامام الحسين عليه السلام : (إنّ الله جلّ ذكره ما خلق العباد إلاّ ليعرفوه ، فإذا عرفوه عبدوه ، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة ما سواه ) ([10]) .
والنتيجة ان العبادة النابعة عن المعرفة تولد الطمأنينة والقرب من الله تعالى ويكون لسان حال العبد : ( ماذا فقد من وجدك ) .
ثالثا : الله خلق الانسان للبقاء وليس للفناء : ولكن هذا البقاء ليس في عالم الدنيا ، انما عالم الدنيا محطة ومرحلة لعالم اكمل . ولأجل ذلك خلق الله الدنيا من اجل الاختبار فيها ، فالدنيا محلا لاختبار الانسان وميدانا للعمل الذي يترتب عليه الحساب يوم القيامة .
قال الله سبحانه: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) ([11])
ومن خلال اختبار الحياة الدنيا بكل انواع الاختبارات والامتحانات ، تظهر آثار معرفة الإنسان بربّه ، وتنكشف درجة إيمانه ودينه وتقواه ويظهر معدن الانسان ، فاذا كان للانسان معرفة ويقين وايمان بربه ، فهذا الانسان ومهما تعرض من اختبارات وامتحانات لا يتزلزل ويكون ثابت الايمان ، ليفوز هذا الانسان في عالم الاخرة. بخلاف من يكون دينه لعق على لسانه فهذا بأول اختبار سوف يسقط في الاختبار والامتحان ولذلك يخسر في الدنيا والاخرة .
رابعا : عمارة الارض : وجد الانسان من اجل ان يعمر الارض وليس من اجل هدم الارض كما قال تعالى {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}([12])
ولكن يجب ان يكون هذا الاعمار والبناء مع اخيه الانسان ،لان الانسان مهما كان فهو لا يستطيع ان يبني ويعمر الارض لوحده ،ولذلك قال تعالى { لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا } ([13]).
ولكن هذا الانسان ،ترك المعرفة ، وترك العبادة الواعية النابعة عن المعرفة ،وترك اعمار الارض كما يريد الله تعالى ، ولذلك اصبح ظالما لنفسه ولأخيه الانسان ، ولذلك قال تعالى ( والعصر ان الانسان لفي خسر ،الا الذين امنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) ([14]) .
خامسا : الله لم يخلق الانسان من اجل الاكل والشرب والتّناسل، وسائر الحاجات الغريزية كما الأنعام والبهائم، بل كرّمه وأعلى شأنه، وفضّله على كثير من خلق تفضيلاً، وقد عاب القرآن الكريم على أولئك الذين أسقطوا أنفسهم إلى مستوى البهيمية، فصار همّهم الأكبر إشباع رغباتهم وشهواتهم؛ فقال الله سبحانه: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) ([15]) .
ومن مظاهر تكريم الله تعالى للانسان كما يلي .
1- الخلق والايجاد : فالله اخرج هذا الانسان من حيز العدم الى حيز الوجود بل وامر ملائكته بالسجود له فسجدوا وهذا مما اغاض ابليس ، قال تعالى : (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا) ([16]) .
2- سخر الله كل شيء من اجل الانسان : يقول المولى سبحانه: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ) ([17]) .
3- أكرم الله -سبحانه- الإنسان بالعقل، وجعله مناط التكليف، فلا تكليف ولا مساءلة لمن فقد عقله، ومن تمام عدله سبحانه أنّه إذا أخذ ما وهب أسقط ما أوجب، والعقل منشأ التّفكير والتّدبر، وأساس الفهم والإدراك، وقد أكّد المولى -سبحانه- على ربط الحالة الإيمانية بالتّفكير والتّدبر؛ فقال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) ([18]) .
خلق الله الكون كله بسمائه وأرضه، وبأشجاره وأنهاره، وبحاره وسهوله، وكل ما فيه لك أنت أيها المكلف، وخلقك أنت له، فانشغل بما خلقت له، ولا تنشغل بما خلق لك ، لكي تفوز في الدنيا والاخرة .
([1]) سورة الانبياء : الاية 16 .
([2]) سورة المؤمنون : الاية 115 .
([3]) سورة الملك : الاية 3 .
([4])الاصول المهمة في أصول الائمة،الحر العاملي،ج1،هامش ص148
([5])نهج البلاغة،خطب الامام علي،ج1،ص14
([6])المبدأ والمعاد: صدر الدين الشيرازي:623.
([7])بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج ٧٩ – الصفحة ١٩٣ ، سنن أبي داود – ابن الأشعث السجستاني – ج ٢ – الصفحة ٤٧٤
([8])الكافي – الشيخ الكليني – ج ٥ – الصفحة ٣٢١ .
([9])الذاريات،الاية56
([10])علل الشرائع،الشيخ الصدوق،ج1،ص9
([11]) سورة الملك : الاية 2 .
([12]) سورة هود : الاية 61 .
([13]) سورة الزخرف: الاية 32 .
([14])سورة العصر .
([15]) سورة محمد : الاية 12 .
([16]) سورة الاسراء : الاية 62 .
([17]) سورة الاسراء : الاية 70 .
([18]) سورة محمد : الاية 24 .