بسم الله الرحمن الرحيم
﴿سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾*
يا له من مشهد ترتجف له الأرواح، مشهد يذكرنا بالقيامة، ونحن نتابع كيف يعود أهل الجنوب اللبناني إلى قراهم كمن يخطو نحو الجنة. بوجوه مضيئة كفجر جديد، وقلوب مفعمة بالإيمان والعزة، وهامات تعانق السماء، كمن أبى أن ينحني إلا للخالق.
أهل الجنوب، أولئك الذين لا يهابون آلة الحرب الإسرائيلية الجبانة، ولا ينتظرون رحمة من الأمم المتخاذلة، أو استجداءً من العرب الذين بات صمتهم خنجرًا في ظهر المنتصرين لهم. أهل الجنوب، الذين رفعوا رايات لبنان وحزب الله، تلك الرايات التي كُتبت بخطوط من دمائهم الزكية وتضحياتهم العظيمة، يعودون إلى قراهم مكللين بالمجد.
أهل الجنوب، اليوم، يعودون إلى كل شجرة نسجتها معاول القهر عبر سنين التعب. شجرة تروي حكاية وطن خطّها الأجداد بعرقهم، وحملها الأحفاد على أكتافهم، ليسقوا تلك الحقول بدمائهم الزكية. هناك، حيث الأرواح الطاهرة ترفرف فوق الحقول، يهطل المطر المقدس على أرض الطهر، فتتفتح الرياحين وشقائق النعمان، شاهدة على عهد لا ينكسر وأرض لا تُهان.
في الجنوب، تلك الأم الخالدة، لن تستبدل قبر شهيدها، ومهجة فؤادها، وروح روحها بالقصور. لن تترك الصباح يمر دون أن تلمس يدها التراب، والدموع تنهمر وهي تتوسل الرضا. تهتز السماء في عليائها من شوقها وحنينها لفراق حبيبها. كل حفنة تراب هي كنزها المقدس. وإن بقي من العمر لحظات معدودة، فإنها ستختار أن تمضيها عند قبر ابنٍ ضحى ليحيا الوطن.
وفي الجنوب، ذلك الأب الجليل الذي غزى الشيب مفرقه، ورسمت السنون الأخاديد على وجهه، لن يكتمل يومه دون أن يمر بروضة الشهداء، حيث ترقد أجزاء من روحه. هناك، حيث تبتسم له ذكرى شاب ارتقى إلى السماء وهو يذود عن بيته، عن أهله، عن حلمه بوطن لا يُدنس.
في الجنوب، سنابل القمح وأشجار الزيتون ليست مجرد زروع، بل هي أبناء الأرض كما هم أهلها. تعرف قلوب وملامح وأنفاس من زرعوها كما يعرف الآباء أبناءهم. ولا تزهر ولا تعطي إلا إذا ضحك لها الجنوبيون، تلك الضحكة التي تنبض بالعنفوان رغم الجراح، وتملأ السماء بأصداء الأمل، رغم العواصف.
كل البيوت تبنى من الحجارة والصلب، الا في الجنوب فان البيوت تبنى بالامل، وتحصن بالارواح، وتفرش بالفرح وبساطة العيش، لذلك هي غالية وثمينة جدا بذكرياتها ولياليها.
يا أرض الجنوب، يا أرض الكرامة والبطولة، يا أرض الزيتون والسنديان، ويا حاضنة الأرواح التي لا تموت، لقد جعلتِ من شهدائك شموسًا أبدية تُنير دروبنا، ومن حقولك كتبًا مقدسة تسرد قصة أمة لا تُقهر.
هذا الشعب الذي لا يعرف الهزيمة ولا يقبل بأنصاف الحلول. شعب نقش كرامته على الصخور ورواها بدماء شهدائه، لا يتنازل عن ذرة تراب، لأن كل ذرة هي جزء من هويته التي لا تُباع ولا تُشترى.
أهل الجنوب، رغم أن عددهم لا يتجاوز الأربعمائة ألف، فإنهم في ميزان الكرامة والشهامة أمة بحجم العالم. شجاعتهم تملأ الأفق، وعطاؤهم لا تحده حدود. كانوا جبالًا صامدة في وجه الطغيان.
وقفوا مع غزة رغم المسافات الشاسعة، وكانوا جسرًا للأمل لكل مظلوم. تهجروا، نعم، لكنهم حملوا وطنهم في قلوبهم أينما ذهبوا، كأن الأرض لم تسعهم لأن أرواحهم أكبر من حدود المكان.
أهل الجنوب هم رواسي هذا الوطن الذي ينشد الحرية. هم عنوان العيش الكريم ومعنى الكرامة الوطنية. هم الحقيقة التي يجب أن نفتخر بها جميعًا، ونعزف لأجلهم أنشودة الوطن، فكلنا للجنوب، وكلنا للكرامة.
هم الإرادة التي لا تُكسر، والعزيمة التي لا تلين، والنور الذي يضيء طريق الخلاص. أهل الجنوب ليسوا فقط عرس الوطن، بل هم روح الوطن.
نحن، في العالم العربي الذي بنى الحجر ونسى الإنسان، لا نستحق أن يكون بيننا شعب كأهل الجنوب. نحن، الذين أضعنا البوصلة وتركنا الطائفية تلتهم أرواحنا، لا نستحق هذا الإيمان النقي الذي ينتمي إليه أهل الجنوب.
كما كان إبراهيم الخليل أمة وحده، فإن أهل الجنوب أمة وحدهم. أمة تختزل كل معاني العزة والكرامة والإنسانية التي تثبت أن الإنسان الحر لا يعجزه شيء.
أهل الجنوب هم صوت الحرية الذي يعلو فوق كل أصوات العبودية. هم البركان الذي يثور في وجه الظلم، والنور الذي يبدد ظلام القهر.
اخرجي يا إسرائيل من أرض باركها الله، من أرض سكنها يسوع، من أرض لا تعرف الخنوع ولا الانكسار. هذه الأرض لأهلها، ولهم وحدهم القرار. أهل الجنوب، أنتم الحكاية، أنتم البداية، وأنتم النهاية.”
ناجي علي أمّهز
https://telegram.me/buratha