د. علي المؤمن ||
الوقائع المفصلية العنيفة التي تعصف بتوازن المجتمع، وتؤثر في مساراته النفسية والسلوكية؛ تتحول بفعل التراكم التاريخي الى فيروسات فتّاكة تنتقل بالوراثة الإجتماعية.
وتزداد خطورة هذا التراكم التاريخي كلما ازدادت مشاهد العنف والتوحش والسادية في المسار التاريخي للمجتمع، حتى تصبح هذه المشاهد بمرور الزمن سلوكاً مرضيّاً موروثاً شبه مألوفٍ اجتماعياً، وإن كان مرفوضاً من الأغلبية. بل ربما يتحول هذا السلوك الى عادات و تقاليد تمارسها بعض الشرائح الإجتماعية في ظل ظروف معينة، تحت عنوان الإنتقام والثأر الجماعي؛ وإن عدّتها الأغلبية الإجتماعية عادات وتقاليد شاذة.
والأخطر من التراكم التاريخي والإرث الإجتماعي، هو وجود المسوغات الإيديولوجية والمثيولوجية لسلوكيات العنف الموروثة، سواء كانت مسوغات ذات علاقة بالموروث الديني أو بموروث التفكير المجتمعي، لأن هذه المسوغات تضفي الشرعية الفكرية على تلك السلوكيات المرضية، وتجعلها ضمن المقبول دينياً ومجتمعياً عند بعض الشرائع؛ بل مثاب و مأجور من يرتكبها.
وتنتقل فايروسات السلوك الجمعي العنيف عبر الجينات الإجتماعية، ثم تكمن في العقل الباطن الإجتماعي. ومن الطبيعي أن تتفجر أعراضها ومظاهرها في أي وقت، عندما تجد الظروف البيئية الإجتماعية المناسبة التي تحتضنها.
و البيئة الحاضنة التي تظهر فيها أعراض السلوكيات المرضية العنيفة الموروثة؛ تتمثل في المجتمعات التي تمر بظروف قاسية تماثل نسبياً الظروف التي مرّ بها المجتمع في أوقات سابقة، كالحروب مع الخارج و الحروب الأهلية و الثورات والإنقلابات والإنتفاضات وغيرها من وقائع العنف الجماعي.
وتساهم جميع الوقائع التاريخية الدموية المفصلية؛ في خلق فايروسات العنف والتوحش، عبر القرون والأجيال. وربما تمتد جذور بعضها الى مئات؛ بل آلاف السنين. ولكن كلما كانت الوقائع أقرب تاريخياً، كانت أكثر تأثيراً في الإنتقال الجيني الإجتماعي؛ كأن تكون قد حدثت خلال القرنين الأخيرين مثلاً.
إن الإصابة بالأمراض النفسية والسلوكية الإجتماعية الموروثة، وفي مقدمتها أمراض العنف والتوحش، وكمون فايروساتها في العقل الباطن الإجتماعي؛ ليس أمراً صعباً ومعقداً. لكن الشفاء من هذه الأمراض ومكافحة فايروساتها أمرٌ في غاية الصعوبة، ويحتاج الى أطباء اجتماعيين على درجة عالية من التخصص والتضحية والتأثير.
فمن هم هؤلاء الأطباء؟ وماهي مواصفاتهم؟ وماهي مهامهم؟ ( موضوع مقال قادم)
https://telegram.me/buratha