علي شايع ||
"الوطنية هي الملاذ الأخير للأوغاد"، كلمة قالها الكاتب البريطاني صامويل جونسون منتصف القرن الثامن عشر، ليكون سبّاقاً بتعريف بعض الوجوه السياسيّة، وكشف إدعائها الزائف. وربما يكون في عامة الناس من سبقه في بلده أو ببلدان أخرى، فالمعنى المحمول للقول سنعثر على شبيه له في كثير من أقوال الحكماء السابقين، ولعلّ أمام الحكمة قالها بوجه آخر وهو يحذر أصحابه من شخص يحاول استقطاب العامة فيكون "ظاهراً موافقاً، وباطناً منافقاً" و" لسانه يسرّ وقلبه يضرّ" وفعله شرّ مبير. مثل هذا الشخص سيلتف حوله سريعاً من تأسرهم الشعارات، وتفتنهم قضية كبرى!، ربما لا تكون موجودة إلا في خطابه السياسيّ وأدبيات ما ينظّر له هو وحده.
من قبيل الإيضاح، وحتى تكون الصورة أجلى: لو استبدلنا كلمة الوطنية بمفردة الشعبوية؛ بمفهومها كحراك سياسي يستنهض الشعب كندٍّ مضاد للنخب الحاكمة، مثوّراً الوقائع بدعوى الإصلاح، في وقت يمكن أن يكون (ذلك السياسيّ) مشاركاً وفاعلاً مع النخبة الحاكمة أصلاً، ومنتمياً ضمنياً الى من يدعي التضاد معهم.
هذا السياسيّ الذي أسهبنا بوصف حاله ومحيطه الذي يتحرك فيه، أختصره الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ووفّر على أهل المصطلح مشقة المثال، فحركته وتياره الجارف ضم في جنباته طبقات من أهل اليسار، ومن أهل اليمين، وفي ملتقى فضفاض يتسع لليهودي والمسيحي والمسلم، وكل من أخذته شعارات الانحياز لسلطة الشعب وما يقرّره، بغض النظر عن انتمائه الأصلي ومعتقده، وبما يُشهر مصطلحاً مستحدثاً جديداً يعرف بالترامبيّة؛ ينطوي على كل ما سلف من المعاني، ويؤسس لحركة أو فكر فيه من العشوائية الجارفة الكثير، وهو يعلن الثورة على النخبة بدعوى استغلالها للحقوق واستغفالها للجماهير.
الغريب إن يكون ترامب، مثلاً، مدّع لرفضه حكم الأثرياء والنخبة أو ما يعرف اصطلاحاً ب"البلوتوقراطية"، وهو جزء من هذه المنظومة. والترامبيّة هنا واسعة ورحبة وفسيحة، ولعلها كظاهرة يمكن أن تكون في أي بلد آخر غير الولايات المتحدة الأمريكية، تماماً مثلما سيكون الحزبي المؤدلج الوعي والفعل مدعياً رفضه التحزب!، أو آخر قادم من وسط ديني، زاعماً رفض حكم النخبة باسم السلطة والنفوذ الديني!.
إذن (الترامبيّة) تستقطب اليمينيين واليساريين، على حدّ سواء، كما تجذب المتديّن المتشدّد لعقائده، ومدعي العلمانية، أو اليساري المحتج وفق ما تمليه عليه ايدولوجيا راسخة في وعيه، كلّهم يمكن أن يضمهم هذا المدّ عبر تجانس عارض، سيفضي بالنتيجة المستقبلية الى انشقاقات وترامبيّات جديدة!.
من المهم بيان إستغلال الترامبيّون -على قلّة عددهم- لأصوات جمهور يعدّ بالملايين، ممن كانت أصواتهم الإنتخابية مع هذا التيار وقت الإنتخابات، ولكن ما بدر من المجاميع التي أظهرت العنف، سيجعل هؤلاء الترامبيون منشقين عن الحركة السلمية الأولى، وستختلف أهدافهم بالضرورة؛ إختلاف نوايا كل جهة منهم، وشتان بين الجهتين.
الترامبيّة، وهذا حالها، ستصح مثالاً جلياً على ظواهر سياسية حالية تستغفل عامة الناس من الباحثين عن الإصلاح والحل للأزمات، فأكثرهم أبرياء القصد والنيّة، وطريق جهنم معبّد بالنوايا الحسنة، كما يقول المثل الشكسبيري. وستلقي بهم تلك النوايا الطيبة في مهاوي الردى، ولن يستفيقوا إلا والفأس في الرأس!، وبعضهم سيبقى سادراً في العمه، فاقداً لبصيرة الإدراك بالحسّ، معتزاً بفأسه، أو ناسياً له، بالضبط كمشهد كاريكاتوري مضحك: شخص يذهب الى عيادة الطبيب والفأس نابت في رأسه ليشتكي له من صداع يلازمه ولا يعرف سببه!. كما يصف المشهد كاريكاتير للفنان مؤيد نعمة، على ما أذكر!.
ترامبيّو الوهم؛ أولئك المخدوعة عقولهم، او المرضى في الأصل، أو المرتزقة، أو بعض المتحصنين بملاذ جديد من جرائم سالفة، سيُستغلون أيما استغلال، ويستغفلون بثمن بخس بدعوى التغيير والإصلاح، وسيساقون الى الخراب وهم ينظرون. منهم من تثمله الأماني حتى يظن بأن قائده الجديد أميراً للصعاليك والمساكين والمهمشين، وسيعيد مجد عروة بن الورد، أو مفاخر البطل الفلكلوري الإنكليزي روبن هود في عصور ظلم أوروبا الوسطى، المعروف بصولاته في سلب الأغنياء وقهرهم لإطعام الفقراء والانتصار لحقوقهم.
ترامبيّو الوهم، فيهم من ستستغله فوضى ترامبيّة (خلّاقة) ليكون أداة تنفيذ لخطط بعيدة المدى، فحادث عرضي يقوم بفعله شخص واحد من تلقاء نفسه، ربما يغيّر مسار تاريخ الكرة الأرضية بمجملها، ففي عام 1933، وبعد أربعة أسابيع بالعدّ والتمام من أداء أدولف هتلر اليمين الدستورية بصفته مستشار ألمانيا، ارتكب محتج (ترامبيّ) النزعة جريمة حرق مبنى (الرايخستاغ) مقر البرلمان الألماني في برلين، ليعلن هتلر وحكومته من ساعتها إن الجاني ( الشيوعي) فعل فعلاً من تخطيط حزبه، وليستخدم الحزب النازي حادث الحريق كذريعة للادعاء بأن الشيوعيين يتآمرون ضدّ ألمانيا، وصارت الوطنية هناك الملاذ الأخير للأوغاد، وحمل بعضهم (قميص عثمان)، أو ما كان يعرف ألمانياً ب"الراية الكاذبة" ليشهد العالم بأسره بداية نكبة عصفت بكلّ شيء، بدأت من خلال موافقة شعبية على الانتقام، وغفلة عامة مرعبة عن تراجع الحقوق المدنية والديمقراطية.
بالطبع دوّنت مئات الكتب حول الحادث المفصلي الرهيب، وأثبتت الوقائع بأن الحزب النازي بيَّت الترتيب لكلّ ما حصل، ولكن والى اليوم يلقي ترامبيّو الرايخستاغ باللائمة على ترامبيين مضادين أحرقوا مبنى البرلمان الألماني.
مشهد اقتحام مجلس النواب الأمريكي كان من الممكن أن يكون سبباً في حدث مفصلي كارثي أخر، والسيناريوهات هنا متعدّدة، فالحريق في المستودع الكبير حريق عابر الشرّ والشرر. ومشهد ذلك الشخص الذي هشم زجاج باب مبنى الكونغرس الأمريكي لتتبعه الجموع، لابد أن يذكّر بتلك النافذة المشؤومة التي دخل منها مُشعل حريق البرلمان الألماني الذي أمتد ليحرق نصف الأرض لاحقاً!.
الترامبيّة الأمريكية في بعدها السياسي ووقائعها المخيفة، لا تخصّ جغرافيا هذا البلد وحدوده، ومن الممكن أن تتكرّر في أي بلد في العالم، وتعصف به. والترامبيّة ظاهرة شعبوية تتطور بحسب المناخ السياسي لنموها وتأثيرها في كل بلد. والترامبيّون النُوَّم لهم خلايا في كل حدب وصوب في المعمورة، وهم في الغالب ملتفون حول قائد يستجيبون لندائه، فينسلون بالخراب والفوضى الى الجهة التي يأمر، وهو ماكر حاذق ويحسبه أصحابه حكيماً، وما هو بحكيم، وليس أخطر على شعب أو دولة ما، من الخلط بين المكر والحكمة، كما يقول الفيلسوف فرانسيس بيكون.
https://telegram.me/buratha