حازم أحمد ||
· الدلالة القرآنية في استعمال كلمة (خَرَقُوا) في الآية:
((وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ ۖ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ))
(الانعام: 100)
المَقال الذي بنيناه على هذه الآية المُباركة هو ردٌّ مِنّا على: (د. سامي الذيب) إذ ذكر في كتابه المُسمّى:
(أخطاء القرآن) جُملة أخطاء وردت في القرآن الكريم – حسب رأيه – وكانت هذه الكلمة مِن بينها، يقول:
(هي خَلَقُوا وليس خَرَقُوا)
انتهى الاقتباس.
ولا يجد معنىً لهذا الاستعمال (خرقوا) - حسب فهمه - ويقول: (هو خطأ)
انتهى الاقتباس.
وللأمانة العلمية أقول هو ذكر بأنّ (بعض) الأخطاء تعود إلى النُّسّاخ وليس إلى أصل القرآن الكريم.
لأجل ذلك - كتابه - ألزمتُ نفسي بهذا البحث للوقوف على أقرب مسافة ممكنة من الحقيقة.
أولًا: بين الجَّعْلِ والخَلْق
عملية الجَّعْل في كتاب الله سبحانه هي عملية مُتقدِّمة كثيرًا على الخلق، وقد تتبع عملية الخلق بعد ملايين السنين، يقول سبحانه في عملية الخلق:
((إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ))
(ص: 71)
ثم تبعتها الآية:
((فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)) (ص: 72)
أما عن الجَّعْل فقال سبحانه:
((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ... )) (البقرة: 30)
بعد عملية الخلق والتسوية (المذكورة في سورة ص: 71-72) جاءت عملية الجَّعْل، فهي:
(صيرورة أُخرى للأنسان) بما هو إنسان بعد نيلهِ شرف (نَفَخْتُ فيه من روحي) وهنا استحقَّ الخلافة في الأرض؛ لأنه حصل على الوعي والإدراك: (السمع والبصر والفؤاد) والقدرة على اتِّخاذ القرار، ولم يَنَلْ هذه المكانة بما هو بشرٌ (فيزيولوجيًّا)، إذ لبث ينتظر طويلًا، لكنه نالها بعد أنْ تأنسَن.
· ثانيًا: خَلَقَ، سَوّى، جَعَلَ
يقول سبحانه في سورة القيامة:
((ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ (39)) (القيامة: 38-39)
لاحظ جيدًا المسار الذي يتكوَّن به الإنسان، وانظر كيف أنّ الجَّعل جاء متأخّرًا عن الخلق حتى في العالم المادي: (أصلاب الرجال، وأرحام النساء) في هذه الآية!.
فبعد أنْ كان:
((أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى)) (القيامة: 37)
إذا به يُخْلَق ويُسَوّى، ثُمَّ تأتي عملية (الجعل)، فيا له من مزيج مُحكم ودقيق بين البلاغة والعِلْم، يُذهل العقل ويُعجز اللسان، وهو فوق أن يُضاهى أو يُجارى!
أ: عملية (الخلق) هي التصميم الذكي، والرسم الهندسي (الأحسن) لمُخطط الإنسان الذي ينتهي إلى:
((لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)) (التين: 4)
فهو الإنسان الذكي المفكر الذي يعقل الأشياء ويفقهها، وله الفؤاد (وحدة السمع والبصر).
ب: عملية (التسوية: سَوّى، سَوَّيتُهُ) هي (التنفيذ)، أي: تنفيذ ذلك التصميم والمخطط الذكي، وهي كذلك عملية متأخّرة كثيرًا عن الخلق في بدايته؛ لذا قال سبحانه:
((... فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي... )) والكلام هنا عن أصل خلق البشر الذي صار إنسانًا بعد نفخ الروح فيه، فهو لم ينفخُ فيه لما كان خلقًا عائمًا؛ لكنه سبحانه نفخ فيه بعد أن (سَوّاه)!
انتبِه! فهي غير ما ورد في قوله سبحانه:
((وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا))
(القصص: 14) فهنا استوى بمعنى الاستقرار.
ج: عملية (الجَّعْل): هي (الصَّيرورة) النهائية لانبلاج ذلك التصميم وانشطاره ذكورًا وإناثًا، ولكلمة: (جَعْل) في القرآن الكريم أكثر من معنىً (في نفسها) أي: اشتراكًا معنويًا في اللفظ عينه، ونحن أخَذْنا ما اختَصَّ في هذه العملية، وهي ليس لها مرادف لفظي، إذ لا ترادف بين: خلق، وسوّى، وجعل.
· ثالثًا: بين: خلق، سَوّى، جَعَلَ، وبين خَرَقُوا
يستعمل القرآن الكريم كلمة (خرق) في موارد الذم والنقص، نحو قوله سبحانه:
((فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا)) (الكهف: 71) فجاء الاعتراض من النبي موسى (ع):
((قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا))
لاحظ هنا (لام التعليل) في: (لِتُغرِق) كوْن عملية (الخرق) هذه هي مُقدمة واضحة لنتيجة حاسمة وهي إغراق السفينة، لذلك قال النبي موسى (ع) للعبد الصالح (ع): لقد جئتَ شيئًا إمرًا (مُتعجّبًا).
ووردت أيضًا في قوله سبحانه:
((إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا))
(الإسراء: 37)، وفي هذه السورة المباركة لو تقرأ ستجد القيم الألهية تموجُ بها، وكذلك بيان المُحرَّمات تفصيلًا، والأمر والنهي... فهو سبحانه يذكر الوصايا لنبيه الخاتم (ص)
ثم يذكر سبحانه الآية: (لن تخرق) ومِنْ ثَمَّ:
((كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا))
فالخرق يقع عند ربِّكَ في إطار: (سَيِّئُهُ، مَكْرُوهًا).
· رابعًا: بين الشِّرْكِ والتسبيح
للتسبيح في القرآن الكريم معنىً يرجى التركيز عليه
يقول سبحانه:
((وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ۗ سُبْحَانَهُ ۖ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (117))
(البقرة: 116-117)
((وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ...)) (المائدة: 116)
((... إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ...)) (النساء: 171)
((قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ۗ سُبْحَانَهُ ۖ هُوَ الْغَنِيُّ ۖ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ...)) (يونس: 68)
((وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ ۙ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ)) (النحل: 57).
وغيرها من الآيات المباركات...
في كل موضع ينسبون فيه لله الولد (البنين أو البنات، الذكر أو الأنثى) تأتي بالملازمة: (سبحانه) فلماذا؟ ومَ العلاقة؟
لأن تسبيحنا في الوجود هو التغيير، والتبدُّل والشيخوخة والهرم، أي: (الهلاك) فلا شيء من خلْقِ الله ثابت، ولا ثابت إلا الله سبحانه، لذلك عندما ينسبون ولدًا لله؛ فمعنى هذا أنّ هناك ما هو ثابتٌ غير الله ومِنْ ثَمَّ هو شِرك!.
نلاحظ في الآية محل البحث ورد الشِّرْك ثم التسبيح. إنَّ تسبيحنا لله سبحانه هو:
(تنزيه له عن التغيير والهلاك، وهو إثباتٌ وشهادةٌ منا بعدم سريان التغيير عليه سبحانه)
((تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)) (الاسراء: 44)
فالتسبيح هنا شمل حتى (ويخلق ما لا تعلمون)، وعبارة (لا تفقهون) ليست تأبيدية؛ بل قد نعلم بسبب تقدم المعارف:
((وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ)) (ص: 88)
وهذه فائدة التفكُّر والتدبُّر:
((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) (فصلت: 53)
((وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۘ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ۚ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) (القَصَص: 88)
ولكَ أن تقرأ العلاقة بين استحالة أن يكون إلهًا ثانيًا في الكون بسبب: (قانون الهلاك)، كل شيء يسير نحو الهلاك حتى الكواكب والنجوم تشيخ وتهرم إلى أنْ يُنفخَ في الصُّور!.
ولأجل ذلك؛ لا يجوز نسبة قدرة الله المطلقة إلى مخلوق أبدًا، فالله هو الذي خلق في (أحسن تقويم)، وهو (بديع السماوات والارض) هو الخالق، وهو الذي يفني الخلق فقط، وخلاف ذلك هو شِركٌ به (تعالى الله علوًّا كبيرًا)
· خامسًا: بين خَرَقوا و(مِن غير عِلم)
بعد بيان الفصل العظيم في البلاغة والعلم بين الخلق والخرق؛ يُكشَف ضعفُ منطقهم، ومدى تيههم في قِبال جمال ودِقَّة القرآن الكريم، وبيان الهندسة الذكية بتصميم (أحسن تقويم)، ومراحله المنتظمة المتسلسلة في (بلاغة العلم الإلهي) المذكورة في الكتاب.
وبيان من يتكلم (مِن غير علم) فيهلك في ميدان علم الله سبحانه.
لننظر ماذا قال إبليس:
((قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ)) (الاعراف: 12)
كان تعبير إبليس بليغًا (علميًّا) - ونحن هنا في موقع الشَّرْح لا المَدْح - لأنه يفهم عملية الخلق وتسلسله وعظمة الله، ويعلم يقينًا أنه (هالكٌ) في القانون الإلهي لا محالة؛ لذلك قال:
((قَالَ أَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ)) (الأعراف: 14)
فهو لم يُنكر قانون (التسبيح)، ولم يصف الله بالهلاك، لكن الإنسان هو الذي ينكره قولًا وعملًا؛ جهلًا منه وطغيانًا، وبَانَ الآن كيف أنهم يصفون ويخرقون مِن غير عِلم، ويظهر هذا التلازم بين عدم العلم لدى هذه الفئة من الناس (عدمًا سحيقًا) وبينَ الاستعمال القرآني لكلمة (خَرَقُوا) وليس خَلَقُوا!.
· سادسًا: المعنى في معجمات اللغة العربية
1- معجم لسان العرب لابن منظور:
ذكر فيها: ... والتخَرُّق: لغة في التخلُّق من الكذب، وخَرَق الكذبَ وتَخَرَّقه،
وخَرَّقَه، كلُّه: اخْتلَقه؛ قال الله عز وجل: (وخَرَقُوا له بنين وبَناتٍ بغيرعلم سبحانه)
قرأَ نافع وحده: وخرَّقوا له، بتشديد الراء، وسائر القرّاء قرؤوا: وخَرَقوا، بالتخفيف،
قال الفَرّاء: معنى خَرقُوا افْتَعلوا ذلك كذبا وكُفراً، وقال: وخرَقوا واخْترقُوا وخلَقوا واخْتَلَقُوا واحد، قال أَبوالهيثم: الإخْتِراقُ والاخْتِلاقُ والاخْتِراصُ والافْتِراءُ واحد، ويقال: خَلق الكلمة واخْتَلَقها وخَرَقها واخترقها إذا ابْتدَعها كذباً، وتَخَرَّق الكذب وتَخَلَّقه، والخُرْقُ والخُرُقُ: نَقِيض الرِّفْق، والخَرَقُ مصدره، وصاحبه أَخْرَقُ، وخَرِقَ بالشيء يَخْرَقُ: جهله ولم يُحسن عمله.
2- معجم أساس البلاغة للزمخشري:
ذكر فيها: ... وخَرَقَ الكَذِبَ وخَرَّقَهُ واخترقهُ وتخرَّقهُ: اشتقَّهُ.
3- معجم العين للفراهيدي:
ذكر فيها: ... والاختراق كالاختلاق، وتَخَرُّقُ الكذب كَتَخَلُّقهِ، وذكر الآية ...
4- معجم الوسيط:
ذكر فيها: ... والكذِبَ – اختلقَهُ، وذكر الآية...
انتهى.
منهجنا في بحث الكلمة قرآني، وذكرنا المعنى المُعجمي البشري استئناسًا، ولمن يرغب في الزيادة.
كان الأجدر بصاحب كتاب (أخطاء القرآن) أن يتدبّر القرآن قبل إقحام نفسه في خِضَمّهِ العجيب، وكان عليه أن يفهم نظامه قبل اتّهامِه بالعشوائية، وحريٌ به أن لا يقيس القرآن على أيّ كتابٍ وعِلم بشري، هذا وإنَّ عليه محاولة فهم القرآن بالقرآن نفسه؛ بصفته باحثًا أو هَوِيًّا في هذا المجال ليأخذ البحث استحقاقه العلمي.
والحمد لله ربِّ العالمين
https://telegram.me/buratha
![](https://telegram.org/img/t_logo.png)