وجه فخامة رئيس الجمهورية جلال طالباني بيانا بمناسبة الذكرى السنوية لزوال النظام الدكتاتوري، وانتهاء حقبة سوداء من تاريخ بلادنا، والانطلاق نحو مرحلة جديدة لبناء دولة تعددية ديمقراطية اتحادية، وفي ما يأتي نص البيان:"تعّلِمُنا دروس التاريخ إن كل حكم جائر، مهما اشتد بطشه وتعاظمت قسوته، لابد وان يؤول إلى زوال. وقد شهد التاسع من نيسان عام 2003 إعلانا عن انتهاء حقبة سوداء من تاريخ بلادنا، ساد خلالها نظام الجور والطغيان، وكان فرد واحد يضع إرادته فوق إرادة شعب بأكمله ويعمد إلى أبشع أساليب التنكيل بمناوئيه ويتصرف بمقدرات البلد وثرواته وكأنها ارث وملك عائلي.وزج الحاكم المستبد ببلادنا في أتون حروب داخلية وخارجية احترق في لهيبها مئات الآلاف من أبناء شعبنا، واستنزفت ثروات البلاد ودمرت طاقاتها وحكمت عليها بعزلة خانقة وحصار قاس.ولم تقتصر حملات تصفيات الخصوم على المعارضين السياسيين بل اتخذت شكل إبادة شاملة تمثلت في المقابر الجماعية والأنفال وحلبجة.وما كان لنظام دكتاتوري كنظام صدام حسين، بمؤسساته ودوائره القمعية الكثيرة، إلا أن يخلف ذيولاً دموية ما زلنا حتى اليوم نعاني منها ونعمل على إزالتها.وقد سعى شعبنا وقواه السياسية الخيرة منذ اليوم الأول الذي أعقب انتهاء النظام السابق، إلى أن تتولى إدارة شؤون البلاد، حكومة وطنية تقوم بمعالجة الإرث الثقيل للماضي وتمهد لإجراء انتخابات حرة ووضع دستور دائم.ورغم إن الأحداث اتخذت منحى أخر لنحو عام من الزمن، فان إصرار الأحزاب والقوى السياسية والمراجع الدينية والفكرية أثمر عن تسليم السلطة إلى حكومة عراقية وطنية، أعدت لإجراء انتخابات الجمعية الوطنية التي تولت إقرار مشروع الدستور الذي صادق عليه الشعب في استفتاء عام. ورغم اتفاق الأطراف على ضرورة إدخال تعديلات على القانون الأساسي فان هذه الوثيقة التي ينبني عليها النظام السياسي ضمنت، لأول مرة في تاريخ العراق الحديث، الحقوق الأساسية للمواطن الفرد والجماعات السياسية والقومية والدينية. وكان ذلك انتقالا فائق الأهمية من حقبة الاستبداد والتفرد بالحكم إلى الشروع بإنشاء دولة المؤسسات واعتماد مبدأ التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة.والى جانب هذا المنجز التاريخي أُطلقت حرية الإعلام والتنظيم الحزبي والنقابي والمهني، وبدأت منظمات المجتمع المدني تلعب دوراً ملموساً في الحياة العامة، وتعاظَمَ دور المرأة التي شاركت بنشاط في العمل السياسي والبرلماني والاجتماعي. ولم يعد ثمة رقيب يخمد صوت الكتاب والأدباء أو يمنع إقامة عرض مسرحي أو سينمائي، وغدا المثقفون العراقيون أحرارا في التعبير عن أرائهم. ورغم كل المعوقات فان عجلة البناء الاقتصادي بدأت تدور، ببطء وفي مواجهة عراقيل كثيرة، لكن الأحوال الاقتصادية للكثيرين من المواطنين أخذت في التحسن وارتفعت المداخيل ارتفاعاً محسوساً.إلا إن هذه المنجزات، على أهميتها، لا يمكن أن تنسينا المشاكل الكثيرة التي ما زال يواجهها عراقنا الحبيب، وخاصة في مجال الخدمات. إذ يعاني المواطن منذ سبع سنوات من انقطاعات الكهرباء وشح المياه، وعدم انتظام عمل شبكات المجاري، إضافة إلى النواقص والثغرات في الخدمات الصحية وفي توفير مباني المدارس وتحسين النقل والاتصالات وغيرها.ولعل الفساد،الذي ورثناه من النظام السابق، علاوة على انه آفة اجتماعية وأخلاقية خطيرة، صار معوقاً أساسيا للتنمية والبناء السليم للبنية الاقتصادية. كما إن الفساد المالي والإداري ينتقص من مبدأ المساواة والتكافؤ بين المواطنين وهو مبدأ كفله الدستور العراقي.إن توفير الخدمات التي تليق بمواطن في بلد حباه الله بثروات هائلة، وقطع دابر العابثين بالأموال العامة والتعاطي مع سائر الملفات المعلقة الأخرى، تقتضي معالجة موضوعين مترابطين ترابطاً وثيقاً وهما انجاز المصالحة الوطنية الشاملة وتحقيق الأمن المستقر.وخلال السنوات المنصرمة تمكنا، بعون الله تعالى، من تفادي الوقوع في شراك الحرب الأهلية التي نصبها أعداء العراق الطامحون إلى النكوص ببلادنا القهقرى وتعويق مسيرتها الديمقراطية.وكانت تجربة الصراع الداخلي المؤلمة والمريرة، جعلت جماهير شعبنا، على اختلاف انتماءاتها، تزداد قناعة بان السبيل لإحقاق الحقوق وضمان الإنصاف والعدالة لا يتمثل في العنف ورفض الأخر، بل في الحوار والاحتكام إلى العقل واللجوء إلى صناديق الاقتراع. وقد برهنت الانتخابات الأخيرة إن بلادنا ماضية قدما في ترسيخ المبادئ الديمقراطية وبناء دولة المؤسسات.وهذا ما لا يروق لقوى الردة والإرهاب التي أدركت إن أمالها في تقويض العملية السياسية تتلاشى مع توطد المؤسسات الدستورية وتنامي الممارسات الديمقراطية.إن مواجهة هذه الهجمة الهمجية الشرسة تقتضي، قبل كل شيء، تعزيز جهود الأجهزة الأمنية وسد الثغرات التي تتخلل عملها وبناءاتها. بيد إن استتباب الأمن ليس مهمة الأجهزة الأمنية وحدها، بل هو محصلة عوامل سياسية واقتصادية ونفسية وغيرها. وبالتالي فان الأمن هو مهمة مشتركة لجميع المشاركين في العملية السياسية وأجهزة الدولة المختلفة والمواطنين عامة.إن تشخيص النواقص وانتقاد الأخطاء حق وواجب على الجميع، لكن ذلك لا ينبغي أن يكون وسيلة للكسب السياسي أو للثأر والتسقيط. فكل مشارك في العملية السياسية مستهدف بنيران الإرهاب، وبالتالي فانه مدعو إلى تقديم المشورة والعون لإخماد النيران واستئصال هذه الآفة السرطانية.وينبغي على جميع الأطراف تحاشي التهديد بموجات عنف آتية وإثارة الهلع في نفوس المواطنين، بل إن الواجب الوطني يقتضي تظافر الجهود في التصدي للعنف وإحباط المخططات الأثيمة للقوى المحركة من الداخل والخارج.لقد بينت الاستهدافات الإجرامية الأخيرة إن من بين أهدافها منع اندماج العراق بمحيطه العربي والإقليمي، وتعطيل المساعي الرامية إلى توسيع وتعميق الروابط الأخوية مع الدول العربية الشقيقة والبلدان الإسلامية المجاورة. ولا يسعنا إلا أن نشيد بالموقف الشجاع للدول التي تعرضت بعثاتها للاعتداء لكنها اصرت، وفي مقدمتها الشقيقة الكبرى مصر، على مواصلة نشاط بعثاتها الدبلوماسية في العراق وتوسيع الصلات الأخوية معه. وبدورنا نؤكد انفتاح بلادنا على أشقائنا وأصدقائنا العرب والمسلمين والأجانب، ورغبتنا في إقامة علاقات وطيدة معهم تقوم على الاحترام المتبادل للسيادة والتعاون الوثيق، وتظافر الجهود في مواجهة مظاهر العنف والارهاب وتحقيق الاستقرار الإقليمي.إن العراق الجديد الذي بدأ قبل سبع سنوات مسيرته المحفوفة بالصعاب والمخاطر، مصمم على إن طريق الأمن والاستقرار والازدهار لشعبه لا يمر عبر الانكفاء نحو الماضي المثقل بإرث الاستبداد، بل عبر الانطلاق نحو بناء دولة تعددية ديمقراطية اتحادية، دولة مؤسسات تضمن قوانينها تنوع الآراء وتكافؤ الفرص.وهذه الدولة لا تبنى بالأماني والتصارع، بل بالعمل الجاد المثابر والحوار الأخوي البناء الذي يحتمل اختلاف الآراء وتباين وجهات النظر لكنه ينبذ العنف والاستبداد.جلال طالباني رئيس جمهورية العراق"
https://telegram.me/buratha