علي عنبر السعدي ||
- في ذكرى تضحية الشرطي عبد الأمير كاظم
- من أجلهم – من أجل أن ينتخبوا
" أبو إسماعيل " لقب أطلق على الشرطي في العراق منذ عقود طويلة ، وبقي ملتصقاً به حتى سنوات خلت ، وقد ظلّ جهاز الشرطة ، الى المراحل الأولى من استلام " البعث " مقاليد السلطة في العراق، يمثل الجهاز القمعي الأول في تراتبية اجهزة الدولة باستثناء ، فترة قصيرة حلّ مكانه فيها ، جهاز خاص شكل على عجل إبان انقلاب عام 1963 ، وهوما سمي يومها ب" الحرس القومي " الذي كانت له صولات وجولات مشهودة في القمع .
التراجع الفعلي لمكانة وهيبة جهاز الشرطة ابتدأت واقعياً منذ أوائل السبعينات ، حينما اشرف " صدام حسين " شخصياً على إنشاء أجهزة مخابرات بطريقة معقدة تتصل وتنفصل في آن معاً ، راسمة لوحة سوريالية غرائبية ، ربما عجزت عن الإتيان بمثلها مخيلة " سلفادور دالي " ذاته ، فقد نظمت تلك الأجهزة بطريقة تتمكن خلالها من مراقبة ورصد أعمال بعضها البعض ، فيما تنفصل مهماتها وطبيعة تشكلها ومسالكها ، لتغوص بعيداً في منحنيات ومعارج الأجهزة الأمنية ودوائر الدولة وأوساط المجتمع على حدّ سواء ، لتعود من ثم وتجتمع خيوطها بيد واحدة ، من دون ان تعرف احداها ، ما هية السبل التي اتخذتها الأخرى في رحلتها تلك .
ولما لم تكن الشرطة بتركيبتها البسيطة ، معدة لمجاراة مثل هذا التشكيل المتشابك ، فقد تم اختراقها بعناصر خاصة أعدت منهجياً لتأدية مهام تختلف بطبيعتها عن المهام التقليدية ، التي كان يؤديها رجال الشرطة ، إذ ليس العدوهنا مجرد مجرمين عاديين من لصوص وقتلة ونشالين وماشابه ، وبالتالي تقوم الشرطة بحماية المجتمع من شرورهم طبقاً لشعارها المعروف " الشرطة في خدمة الشعب " ، بل هم " أعداء " من نوع آخر ، اما سياسيون طامعون في الحكم ، او مواطنون ناقمون على الحكم اومتذمرون من اساليبه أو حتى ليس موالين له بما يكفي ، وبالتالي ينبغي إعادة صياغة الشعار القديم " في خدمة الشعب " واستبدالها بمقولة " في خدمة النظام " - و ضد الشعب بطبيعة الحال - أي يجب أن يكون ولاء الاجهزة للنظام ، يتفوق على– بل ويلغي - اي ولاء آخر، انه ولاء توحيدي " إيماني " مقدس – مافوق أحادي – يختصرفي حيثياته كل انتماء .
وعلى هذه القاعدة " الولائية " أعيد بناء أجهزة الشرطة بحيث لم تعد تراتبية الهرمية القيادية ، تتحدد وفقاً لسلسلة الرتب والمراتب وأحقيتها في القيادة كما هو المعتاد ، لذا لم تعد لوزارة الداخلية معرفة او شأن بأجهزة المخابرات حتى لو كان بعض أفرادها من منتسبي الوزارة ، وعليه شهدت أعمال الشرطة تداخلات غاية في الغرابة ، كأن تكون أوامرشرطي متواضع الرتبة ، مخيفة ومطاعة اكثر من كلمة ضابط أعلى رتبة منه في السلك ذاته ، إذا كان الاول حزبياً او منتمياً الى أحد أجهزة المخابرات التي كانت اشبه بالصناديق السحرية ، كلما فتحت واحداً وجدت آخر بداخله ، وما ان يفتح واحداً حتى يعود آخر للانغلاق ضاماً بداخله صناديق اخرى ، وهكذا بلا نهاية ، وكانت هذه واحدة من الأسرار الغامضة التي جسدتها قدرات " صدام " في المجال المخابراتي ، رغم ان تاريخه المكشوف ، لم يشرالى أين ومتى كوّن خبرته تلك ، أو تلقى دروسه الاولية في هذا الجانب .
ومع تمرس اجهزة المخابرات في القمع وتعمقها في ابتكار وسائل واساليب لم تكن معروفة في العراق من قبل ، حدثت في عموم مسلكيات افرادها ، تغيرات بنيوية خطيرة أملتها متطلبات ممارسة المهنة ، إذ اصبحت الاستهانة بالحياة البشرية شيئاَ معتاداً ، والعداء للمجتمع حالة طبيعية في ظلّ نظام القيم الذي ساد طوال أكثر من عقود ثلاثة ، تحولت معه أجيال بأكملها الى آلات متحركة للقتل ، بل والتلذذ بممارسته .
وعندما سقط النظام ، فقد ت هذه الأجهزة سندها " القانوني " في تأمين وتشجيع ممارساتها السابقة ، لكنها لم تفقد في المقابل ما ادمنت عليه ، بل زادها شراسة وحقداُ ، شعورها بأنها باتت محتقرة ومنبوذة من ذلك المجتمع ، الذي طالما اُستخدمتْ للفتك به ، وبالتالي مادامت قد فقدت نفوذها وسطوتها ، فلتثبت لهذا المجتمع انها مازالت قادرة على تخويفه والانتقام منه ، لذا أوغلت في هستيريا مرضية باتت معها أكثر غوصاً في الجريمة ، وبالتالي فقدان صلتها بالروابط الإنسانية أو الأخلاقية التي يمكن ان تعيدها الى حالتها السوية، وهي إذ تطالب بعودة صدام واجهزة مخابراته ، فانما كي " يشرع " لها فعل القتل ب " قانون الدولة " كما كان يفعل سابقاً.
وعلى هذه الصورة ، كان على الشرطة الفتية الناشئة حديثاً تحت النار، ان تواجه قوى منظمة ومتمرسة في كل شيء ، في أعمال القتل ووسائل إدامته ، في التنقل والرصد والسيطرة والتخابر والاختراق، وفي المعرفة الدقيقة بدوائر الدولة وبنيتها ومراسلاتها واجهزتها، ثم في الأموال والمتطوعين والأسلحة والمتفجرات والسيارات المفخخة التي توفرها منظمات الإرهاب الدولي ، بالتعاون مع أجهزة مخابرات لأنظمة إقليمية تلتقي مصالحها في هدف واحد .
كانت خارطة القوى المعادية ،اكثر اتساعاً وتنوعاً من قدرة الشرطة الفتية على تغطيتها ، فهي مؤسسة مازالت طرية العود ، وفوق هذا يطلب منها الالتزام الصارم بالقانون وبمسلكية أخلاقية ، قادتها الى إنقاذ أحد الإرهابيين من أيدي المارة ، الذين أوشكوا على الفتك به، بعد أن فشل في تفجير سيارته المفخخة وسط الشارع ، في مقابل أعداء يقاس النجاح لديهم بعدد أرواح العراقيين التي تزهق في كل عملية .
لا بد انها معادلة يبدو التوازن فيها مستحيلاً ناهيك بالانتصار، بل أن كل ما يحيط بهذه المعركة من معطيات وظروف يمكنه أن يدفع الى الإحباط ، حتى أقوى النفوس واكثرها صلابة وصبراً ، لذا كانت المراهنات والتحليلات تصب جميعا لصالح نظرية الانهيار الذي سيصيب الأجهزة الأمنية الوليدة نتيجة لتوالي الضربات وقسوتها ، ولم يستطع احد ان يرى التحولات المضادة بالمقابل ، التي تشير الى أن عود الشرطة بدء يقوى ويتصلب ، وانها حققت نجاحات لافتة في الإيقاع بشبكات كبيرة من هؤلاء ، والأكثر مدعاة للعجب و الإعجاب معاً ، ان اعداد المتطوعين في الشرطة والجيش لم تنخفض ، بل ازدادت الطوابير توافداُ وكثافة في تحد هائل للموت ، وفي ظاهرة ليست الحاجة بمفردها هي الدافع اليها قطعاً ، بدليل ما يؤكده مثال واحد من بين مئات الأمثلة التي يمكن إيرادها ، لتبيان مقدار التحول الذي طرأ على مسلكية رجال الشرطة العراقية ورؤيتهم لأداء مهامهم .
فلم يكن عبد الامير محمد كاظم ، متجهماَ فظاً كما يفترض بشرطي حسبما انطبع بمخيلة العراقيين ، بل كان ودوداً مرحاً رغم الأخطار اليومية التي عليه مواجهتها ، مجاميع من نفوس ميتة خرجت للتو من كهوف الجحيم ومستعدة كذلك للعودة اليه ، ولم يكن عبد الامير كاظم ومن معه ، يملكون سوى حبهم للحياة وتفاؤلهم بالقادم من الأيام علهاّ تكون افضل .
كانت لحظة تراجيدية تلك التي التقى فيها زمنان مختلفان كل الاختلاف ، كان الانتحاري معبأ حتى الأظافر ، بهمجيته وظلامه ، فأبالسة الجحيم ، تأمره بالمزيد من الدماء ، وكان بشعاَ أقصى حدود البشاعة ، ومما زاده بشاعة ، ذلك المزيج من الرعب والحقد المنبعث من عينين كانتا تتلصصان على الذاهبين للإدلاء بأصواتهم ، انتظاراً لتجمع أكبر كي تكون الدماء أكثر إرضاء ل" أمير " الظلمات القابع بين الثقوب .
ولم يكن ذلك الشرطي خبيراً بعلم الفراسة ، وهو الذي لم يتلق تدريباً كافياًُ يؤهله لوظيفته ، ومع ذلك كان عليه مواجهة لحظة مرعبة لاختبار إنسانيته ، لحظة كانت أقصر من التفكير فيما سيفعل ، فكل ثانية كانت كفيلة بإنقاذ أرواح حرمّ الله قتلها ، ثم ومضت اللحظة الفاصلة بين مفهومين : بساطة المعنى في عطاء الحياة ، والعقدة المرضية في إهدارها ، كان الشرطي يمثل المستقبل ، لذا دافع عن حق شعبه في الحياة والحرية ، وكان ذلك الانتحاري يختزل كل ماراكمته هستيريا الجنون في كرهها للحياة و "حبها " للدماء ، انها جدلية النور والظلمة ، صحيح ان الشرطي طوق الانتحاري ليقتلا معاً ، لكن شتان مابين المقتلين، في القيمة كما في المضمون والدلالة والإيمان.
انها واحدة من مؤشرات كثيرة تدلّ على ولادة جديدة لجهاز الشرطة الذي طالما وضع في زاوية الاتهام ، فللمرة الأولى في تاريخه ، يمكن لشعار " الشرطة في خدمة الشعب " ان يكتسب مضموناً حقيقياً يرتقي الى مصاف المأثرة التي تستحق الاحتفال بتاريخ مولدها ، ومن حق رجال الشرطة العراقية اليوم ، ان يفخروا بأنهم قد عادوا الى صفوف شعبهم ليقوموا بحمايته وخدمته بعد أن غربتهم عنه عهود الاستبداد .