محمد عبد الجبار الشبوط ||
قبل ان يقتل الثوار الخليفة الثالث عثمان بن عفان، سنة ٣٥ هجرية، قالوا له: اخلع نفسك من هَذَا الأمر كما خلعك اللَّه مِنْهُ، فرفض وقال لهم: "لا أنزع قميصا ألبسنيه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ". فلما قتلوه جاءوا الى الامام علي يبايعونه بالخلافة. لكن الامام علي رفض هذه البيعة وطلب منهم، بعد حوارات طويلة ان تتم في الْمَسْجِدِ، قائلا لهم:، "فَإِنَّ بَيْعَتِي لا تَكُونُ خَفِيًّا، وَلا تَكُونُ إِلا عَنْ رِضَا الْمُسْلِمِينَ". فَلَمَّا أصبحوا من يَوْمِ الْجُمُعَةِ حَضَرَ النَّاسُ الْمَسْجِدَ، وَجَاءَ عَلِيٌّ حتى صعد المنبر، فقال: "يا ايها النَّاسُ- عَنْ مَلإٍ وَإِذْنٍ- إِنَّ هَذَا أَمْرُكُمْ لَيْسَ لأَحَدٍ فِيهِ حَقٌّ إِلا مَنْ أَمَّرْتُمْ، وَقَدِ افْتَرَقْنَا بِالأَمْسِ عَلَى أَمْرٍ، فَإِنْ شِئْتُمْ قَعَدْتُ لَكُمْ، وَإِلا فَلا أَجِدُ عَلَى أَحَدٍ".
وهكذا تمت البيعة لعلي. والواضح من الحوارات التي يرويها الطبري في تاريخه وغيره، ان الامام رفض ما يسمى "الشرعية الثورية"، واصر على "الشرعية الدستورية" التي تتم على اساس "البيعة" العلنية لعامة الناس في مكان عام هو المسجد، هذا رغم انه يعتقد انه يملك شرعية ثالثة هي شرعية الوصية من الرسول. ولكنه لم يتصرف بموجب هذه الشرعية، لان تفعيلها يتوقف على مبايعة الناس له.
و قول الامام:"إِنَّ هَذَا أَمْرُكُمْ لَيْسَ لأَحَدٍ فِيهِ حَقٌّ إِلا مَنْ أَمَّرْتُمْ" مستمد بالاصل من قوله تعالى:" وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً". ومؤدى كلمة "خليفة" ان الله منح الانسان حق السلطة والسيادة على نفسه. ويقول الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر ان الانسان مهيأ تكوينيا لتولي هذا المنصب الخطير. وفي تعليقه على قوله تعالى:"إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ" قال ان العرض والقبول في هذه الاية تكوينيان.
والسؤال الذي تثيره اية الاستخلاف هو هل ان ان الخلافة متعلقة بادم شخصيا ام بعموم البشرية؟. ويقول الباحث البريطاني روبرت فيلمر (١٥٨٨-١٦٥٣) في كتابه PATRIARCHA ان الله استخلف ادم شخصيا. لكنه رأى ان هذه الخلافة الشخصية انتقلت من ادم الى الملوك. وهذه هو اساس نظرية الحق الالهي في الحكم. لكن جون لوك (١٦٣٢-١٧٠٤) رفض في كتابه Two Treatises of Government هذه الفكرة وقال ان الخلافة تشمل النوع البشري كله. وهذا نفس الرأي الذي قال به محمد باقر الصدر، و بيّن ان الخلافة هي اساس للحكم، حيث اناب الله الجماعة البشرية في الحكم وقيادة الكون واعماره اجتماعيا وطبيعيا، وعلى هذا الاساس تقوم نظرية حكم الناس لانفسهم وشرعية ممارسة الجماعة البشرية حكم نفسها بوصفها خليفة عن الله.
وينتج عن هذا القولُ بسريان الولاية بين كل افراد المجتمع، وهذا ما تنطق به الاية القرانية التالية: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ".
وبناء على هذه الفكرة اجاب السيد محمد حسين الطباطبائي عن السؤال: من الذي يتقلد ولاية المجتمع في الإسلام و ما سيرته؟ بما يلي: "أمر الحكومة الإسلامية بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بعد غيبة الإمام كما في زماننا الحاضر إلى المسلمين من غير إشكال". وهذا هو اساس شرعية الذي يتولى السلطة التشريعية او التنفيذية في المجتمع، وهو الانتخاب. وهذا هو رأي الامام السيستاني ايضا. وعليه لا تصح ولاية احد على الناس، ولا تصح طاعته فيما يأمر وينهى ويشرع اذا لم يكن توليه الامر قد جاء عن طريق الانتخاب.