د. نعمه العبادي ||
يكاد يطبق جميع الذين يشتغلون على رصد وتحليل سلوك وخصائص المجتمعات، ان العراقيين يتفردون بخاصية قد لا يشابههم فيها أحد من شعوب الأرض، وحقيقتها : (أنك عندما تأخذهم أفراداً، كل منهم على حده، فإنك تشهد أعلى مستوى من التميز الفردي في الكثير من الخصائص والصفات، خصوصاً فيما يتصل بنبل السلوك والنضوج الاجتماعي والفطنة وسرعة المبادرة ومبدئية المواقف إلا أنك تلمس عداً عكسياً للنتائج والمخرجات، حالما تضيف هذا الفرد إلى فرد آخر، فكلما تزايد العدد قلت المخرجات وتناقصت، ورأيت العجب من التصرف والسلوك، وحاصرك الجدل العقيم، والتعويق المجهض، وأصبحت الصورة بوضع لا نحسد عليه).
لا تقع هذه الأشارة في إطار جلد الذات أو المبالغة في التقييم، ومعها لا يخرج العراقيون من دائرة التميز بالمجمل إلا انها اشكالية تاريخية متجددة، تعلق بها الكثير من شأن ومصير هذه الارض وأهلها، ولولاها لكانت الأمور بشكل مختلف.
تختلف دراسة الجانب المعنوي من حياة الإنسان عن جانبه المادي في أن الأخير يمكن أخضاعه للمشاهدة والمراقبة الحسية الدقيقة، ويمكن ملاحظته عبر المجاهر والمكرسكوبات واجهزة التحليل الدقيقة، وبذلك يمكن الحصول على نتائج دقيقة، فيما يختلف الامر في البعد المعنوي، فالنتائج تبقى تقريبية، والاستقراءات ناقصة، وحالة الرصد تتحدث عن المعظم أو الأغلب إلا انه مع ذلك يمكن الوصول الى تعميمات مقبولة ومؤيدة بحسب مناهج ونظريات البحوث النفسية والاجتماعية وغيرهن من مجالات العلوم الانسانية.
تحاول هذه المقاربة رصد العقل الجمعي، والضمير العام، والتوجهات الرئيسة، والمعالم الثقافية والانماط السلوكية، والادراك الجمعي، والمسار العريض، والصورة الشاملة للعراقيين، وتتلمس مدى تأثير وحضور جملة من المصادر المهمة في حياة المجتمع، والتي لها تأثيرات متفاوتة في مجتمعات أخرى، وتلعب أدواراً لا تشابه ادوارها في العراق، الأمر الذي يفسر ويجيب عن السؤال الذي انطلق منه هذا المقال.
بعيداً عن الجدل العقيم، يشكل المسلمون الغالبية العظمى للشعب العراقي إلى جانب المكونات الدينية المحترمة الأخرى من مسيحيين وصابئة وأيزيديين وغيرهم، ويتواجد معظم المسلمين السنة في المحافظات الغربية والشمالية فيما ينتشر الشيعة في الوسط والجنوب، وتمثل مدينة النجف الاشرف محل تواجد المرجعيات الكبرى لشيعة العراق بل والعالم، فيما تتقاسم السلطة الدينية للسنة أكثر من جهة دون أن يكون لأي منها صفة المركزية، ومن المعهود ان تكون التوجهات الدينية السنية متناغمة مع الدولة حيث فرضية الحكام هو ولي الامر المطاع، وللمكونات الدينية الأخرى مرجعيات متفرقة، وهم أقل أختلافاً في هذا الجانب.
عند البحث في السلوك العام العراقي والجمعي على وجه الخصوص والمرتبط بالقضايا ذات الصلة بالدين، نلحظ التأثير الطفيف للمرجعيات الدينية بوصفها جهات تتحدث عن (السلوك الديني القياسي)، وتتفرد الممارسات الطقوسية والدين الشعبي بحصة الاسد في صياغة الجانب الأهم والأكبر من سلوك المجتمع، ويظهر ذلك جلياً فيما يتعلق بمفردات السلوك المتصلة بالشأن الخاص، إذ لا يمكن الحديث عن تربية دينية معرفية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، بل هناك توجهات عامة ترسم صبغة شاملة تتخلف بشكل واضح عند النزول إلى التفاصيل، ويظهر السنة تلائماً أكبر بين سلوكهم الجمعي والتوجهات العامة لمرجعياتهم المتفرقة على اختلاف حجومها نتيجة إلى ان توجهات كليهما لا تشكل حالة تصادم حادة في المجالات الدنيوية، ويساهم الإقرار بشرعية الدولة مهما كان شكلها حالة استرخاء كبيرة للمجتمع السني تعفيهم من الحرج بخلاف الوضع عند الشيعة في اغلب الاحيان، وينطبق الامر ذاته حتى في الجوانب الاخلاقية والسلوكية مما يجعل المجتمع السني اكثر تصالحاً مع ذاته، وترجع محدودية الدور للمرجعيات الدينية إلى اسباب مركبة تتصل بالمرجعيات نفسها وبالمجتمع، من حيث الطريقة والمنهج الذي اتخذته المرجعيات في رسم علاقتها مع المجتمع، ومن جانب آخر حقيقة استجابة المجتمع لتوجيهات المرجعية ومدى التفاعل معها.
في الجانب الاجتماعي والثقافي والمدني، تغيب الجامعة وعموم المؤسسات الاكاديمية غياباً شبه كلي عن ساحة التأثير في مسار السلوك الجمعي والحالة الثقافية العامة، فالجامعة عندنا قاصرة عن رسم معالم الزقاق الذي تتواجد فيه فضلاً عن المدى الأبعد، وهي في صورتها العامة بناية يتواجد فيها مجموعة من الدارسين لا اكثر من ذلك ولا أقل، وهو أمر أتصل بجرد الاهداف التي وضعت للجامعة عندنا، وكذلك في توجهات معظم النخبة التي قادت المؤسسات الجامعية، ومنظار الدولة للحدود التي سمح بها للجامعة في لعب ادوار خارج اسوارها، كما يتلحق بالجامعة في هذا التقييم عموم النخبة المثقفة، فهي طبقة (ارستقراطية ثقافياً)، تعيش توجهاتها ووعياها في اطرها الخاصة، بل في حدود السلوك الفردي وإلا في النظرة العامة لها امراضها وعللها العظيمة التي قد تفوق علل وامراض العامة، والمهم ان هذه الطبقة (بمختلف توجهاتها الثقافية) أفراداً وجماعات لم تساهم في صياغة السلوك الجمعي او الحالة الثقافية او ترسيم حدود انماط العيش والتعامل، وظلت مراوحة في حيز جغرافي ضيق، بل لم تستطيع حتى تقديم إنموذج اجتماعي جاذب يمكن ان يمثل دالة مؤثرة في السلوك العام.
يتأخر الفن مراتب عن المرجعيات الدينية والنخب في مكانته من التأثير في السلوك العراقي العام، فهو لا يكاد يبين لأنه في الحقيقة وبدون قسوة في الحكم لا يكاد يبين وجوداً، فنحن غير مدينين للمسرح ولا للتلفزيون ولا للسينما ولا للرسم او النحت بشيء يتعلق بصياغة توجهات المجتمع والتاثير فيه، وهو أمر طبيعي يتناسب مع المستوى الذي حققه الفن في العراق منذ بواكيره الأولى وحتى لحظتنا الحاضرة، وأما حضور بعض ألوان الغناء فهو امر لا يعود لخصوصية هذا الفن وجودته بل لان الغناء العراقي وأخص بذلك الجيد منه هو تعبير ذاتي عن الالم والحزن والهواجس العراقية عبر موهبة شاء الله ان يرزقها لمعظم العراقيين وخصوصا من ابناء الوسط والجنوب مما جعله نحو من الترجمة المصوتة للصورة النفسية العامة اكثر من كونه ابداعاً موجه.
تضرب الاعراف والتوجهات العشائرية والقبلية بجذورها العميقة في معظم مفاصل المجتمع العراقي، ولا تزال تقطع الطريق على اي مدنية تريد الاستحواذ على الجمهور، ومع أن الامر في مناطق غرب وشمال العراق أقل وطئة إلا ان الطقس العشائري حاضراً بقوة في كل الاروقة العراقية، ولا يعود ذلك الى قوة العشيرة والقبيلة لجهة نوع المنتج الاخلاقي والسلوكي الذي تنتجه او لجهة كاريزما الشخصيات التي تقودها، بل يرتبط ذلك بمركب معقد، احد اطرافه طبيعة التكوين الاجتماعي والتاريخي العراقي من جهة، وسعة الادوار التي تمددت لها العشيرة في ظل محدودة دور الدين والمدنية والنخب والمؤسسات الاكاديمية بل والدولة.
يحوي العراق على مختلف مراحله التاريخية على عدد كبير من المهتمين بالسياسة وخصوصا الجانب المتعلق بمعارضة الحاكم والتمرد على سلطته دون ان يكون هناك جهداً تأصيلياً لمنتج واضح المعالم وناضج الشكل والمضمون في مجال الفكر السياسي والنظرية السياسية، بل وحتى في منهجة الممارسة السياسية، وقد قلت ذلك في مرات سابقة، ان جميع القوى التي انخرطت في صناعة المشهد السياسي العراقي انشغلت في سؤال من يحكم دون البحث في سؤال كيف نحكم، ولم تنتج المؤسسة الاكاديمية المعنية بالسياسة أية افكار مهمة وذات صبغة وطنية في ادبيات الدولة والحكم، وكل الاحزاب الوطنية هي فروع لاحزاب اقليمية او عالمية او نسخة من احزاب اخرى وإن جاءت بأسماء محلية، ويمكن القول ان الامر ذاته يتكرر بخصوص النشاط السياسي العام والتوجهات الكبرى، فإن ما يسمى بالنخبة السياسية والمنتج الفكري السياسي والمؤسسات السياسية فيما يتعلق بدورها في صياغة المشهد العام للذوق السياسي للجمهور وتوجهاتهم على الرغم من نزو السياسي الوظيفي على كل شؤون الحياة خصوصاً بعد
نيسان 2003
وبضرس قاطع لا يمكن الحديث عن اساتذة وتلاميذ في مجال الوعي السياسي العام.
تحضر البيئة الاعلامية بوصفها فضاءً عاماً يتيح تداول الاخبار والحوادث واليوميات، بحيث تغذي الجمهور بموقف تفصيلي بغض النظر عن الدقة والتوجهات والادلجة إلا ان المؤسسات الاعلامية بكل مستوياتها لا مكانة لها في التربية الجماعية بالشكل المؤثر والفاعل، وهي اقرب الى اللاعب المحفز منه الى العامل الاصيل في التوجهات المهمة.
تعيدنا هذه السردية الى السؤال ذاته (من يصنع العراقيين؟)، وهو امر يعقد مهمة الاجابة بشكل كبير، فهل يعقل ان هناك تربية ذاتية متعددة بعدد العراقيين، فكل له دينه وثقافته وموقفه الاجتماعي والسياسي، أم اننا امام عوامل غير معهودة ومكشوفة في ادبيات تحليل السلوك الاجتماعي، ام اننا أمام تداخل متمازج بين انزياحات غير منظمة بين هذه الجهات لانتاج صور تأثير مختلفة مما يجعل الاستدلال على مصادر التاثير اكثر صعوبة؟
في عقيدتي، ان السؤال لا يزال يستحق الكثير من البحث والتدقيق.
https://telegram.me/buratha