د.نعمه العبادي||
على الرغم من تفرعن مظاهر القوة الصلبة بمختلف تجلياتها، وإستفرادها في إعادة صياغة الجغرافية الطبيعة بحسب محددات الجيوبولتك الجديد، والتي قدمت الأرض (من حيث الأهمية) على أساس محددي القوة والثروة إلا ان القوة الناعمة لم تنفك تزاحم تلك الفرعنة في معادلة قد يأتي فيها محلها، متطابقاً وداعماً لمرتسم القوة الصلبة، وقد يأتي بالضد منها، ليشاركها إعادة ترسيم الاهميات، وكثيراً ما يتقدمها، فيكون سيد المشهد.
تجري الترتيبات لزيارة مهمة بكل المقاييس للبابا فرنسيس (بابا الفاتيكان) الى العراق للفترة من (٥-٨) من شهر آذار المقبل، والذي يعني اننا أمام أسبوع من تحققها، وهي زيارة تأجلت لمرات عديدة لظروف مختلفة، وقد تم رسم الخارطة التي تستوعبها الزيارة، حيث يبدأ رحلته في العراق من كنيسة النجاة في بغداد، وهي محطة ليست أساس في الزيارة، ثم ينتقل الى برنامج الزيارة الاهم، متوجهاً الى مدينة الناصرية مركز محافظة ذي قار، ويزور فيها زقورة أور، وبيت النبي أبراهيم عليه السلام، حيث مولده هناك، للشروع بحج ديني كبير (بحسب المسيحية الكاثوليكية يبدأ من الناصرية وينتهي في القدس)، ويوجه من هناك خطاباً الى جميع سكان العالم، وكذلك يتضمن البرنامج زيارة مدينة النجف الاشرف ولقاء المرجعية الدينية فيها، ومن المؤكد انه سيزور ضريح أمير المؤمنين علي ابن ابي طالب عليه السلام.
استعرضت الكثير من المقالات والكتابات، الاهداف والمقاصد والاستحقاقات والتحديات والمواقف والآثار والآمال المتصلة بهذه الزيارة المهمة، وقد تضافر الوصف على انها فرصة تاريخية مهمة، ينبغي استثمارها لفتح حوار انساني كوني يؤسس لمرحلة سلام جديد، ويعيد روابط العلاقة بين الاديان بعد ان فعلت بها اتجاهات التعصب والاصولويات المتطرفة فعلتها الشنعاء، كما، انه، يتيح المجال للاستماع المباشر للآراء والافكار، مضافاً الى المكاسب السياسية والاقتصادية والامنية، فالبابا رجل مسموع ومحترم في كل دول العالم، وخصوصا في اوربا المسيحية، والعراق بحاجة الى الجهود الدولية الايجابية.
ما لم يجري الحديث عنه والتعرض له ضمن التحليلات والمقالات المتداولة، وهو الأهم بحسب فهمي، الخارطة التي تعيد رسمها زيارة البابا، من حيث اعادة تعريف الامكنة بحسب (مفاهيم القوة الناعمة)، فالناصرية المضمحلة في خارطة القوة والثروة تعود في صدارة خارطة القوة الناعمة لتكون مفتتح العالم ومبتداه، ثم انها تقدم بحسب هذه الصياغة (المغفول عنها وطنياً) ليست مرتكزاً لسلم محلي شامل، بل لعالمي كوني، كما ان النجف الاصولية المنفتحة والكاثوليكية المتدينة المتمسكة بالمحبة تشكلان ثنائياً منسجماً في توجهات لم يعد عالم الاستهتار واستفحال ادوات القهر، ملتفتاً له ومهتماً به، الأمر الذي يبين أهمية هذا اللقاء ومكانته.
ان هذه الزيارة بمثابة اعادة فرش لخارطة التوصيف الحضاري القديم الذي كانت الاهميات بحسبه مختلفة، والتي تم الانقضاض عليها وطمسها، وتحويلها الى كواليس مغلقة الطرقات، وعليه تنتقش أور في صدر الخارطة الكونية الثقافية والدينية وتلتحق بها النجف الاشرف ضمن لحظة تاريخية يغط العالم فيها بسكون مخيف بعد ان اجبرته كورونا على الترجل قهراً من رحلته المجنونة.
قد يتصور البعض ان هذا الامر يستلزم بالضرورة تغييراً في الاوضاع الظاهرية الاقتصادية والمعاشية لهذه المدينة ( وهو ما نرجوه)، والذي ينطلق منه الكثير في تقييمهم للزيارة، او وجهة النظر المعاكسة التي تتحدث عن تقييم مخالف، مرتكز على هذه النقطة بالذات بالتقليل من اهمية الزيارة بوصفها لا تنتج نحو من التغيير على الارض إلا ان كلا الفريقين لا يلتفتان الى خارطة المكانة المعنوية التي تعني الكثير في منظور العالم الواعي.
ان هذا الانجاز يتطلب ادراكاً عراقياً عاماً، وناصرياً خاصاً، لضرورة تمكين الخطوط من اعادة صياغة رسم الخرائط وفقا لمعادلات مبدئية وقيمية جديدة، يتم فيه توصيف مختلف للعالم عما هو سائد او يراد له أن يسود.
https://telegram.me/buratha