محمد مكي آل عيسى
إن التطور الذي تكسبه البشرية وهي تسير على مدى سنين تقطع أشواطاً في مجال البحث العلمي والتقدم التكنولوجي يجعلها في غفلة عن رسالتها الإنسانية الحقّة فتنساها وتحيد عنها منشغلة في اندفاعها لا يوقفها شيء .
ويكون هذا الانحراف والحيود عن رسالتها بسبب أمرين: الأول تفوقها العلمي الذي يشدّها للبحث والدراسة أكثر وأن تتوغّل في العلوم الطبيعية أكثر وهذا الانشداد بطبيعته غارٌّ خادع فيما لو تجرد عن العقلانية وعن المبادئ والقيم والأخلاق.
والأمر الثاني ما استطاعت أن توفره البشرية من اللذائذ والشهوات والتسلط والعلو وتعميقها لحب الدنيا في النفوس ومحاولتها لجعل نيل ذلك بمنتهى السهولة واليسر من خلال إباحة الممنوع وجعل الصعب سهلاً ورفع الحرج والحياء وغيرها وهذا التوغّل والانغماس أيضاً له من الأثر السلبي الكثير الكثير فهو جاذبٌ غير مكتفٍ أبداً مبعد عما ذكرنا أيضا من التعقل والالتزام والمحافظة وغيرها.
وهذان الأمران إنما يعصفان بالبشرية جمعاء ليقوما بحرفها عن السكة الإلهية التي أرادها الصانع الحكيم لها أن تسير عليه ناشدة لكمالها وسعادتها الحقيقية لا الزائفة.
وعندما يقع هذا الإنحراف لا بد من موجّه يدفع بالبشرية مرة أخرى لتتخذ جادة الصواب محافظة على انسانيتها . . فتبدأ عجلة الكون لتتحرك بأسبابها فتقوم الاعوجاج في المسيرة
فتبتلى وتفتتن الأرض بما لم تعتد عليه من الابتلاءات والمحن ليميز الله الخبيث من الطيب وليوجه صفعة التقويم للناس لعلهم يرجعون , مع أن الأمر غير مطّرد بل يستند على أسباب وعلل تقتضيها حكمة البارئ.
فالفتنة امتحان يسلطه الله جل وعلا على الناس ليلتفتوا له مرة أخرى ويعودوا لرشدهم بعد طول ابتعادهم
وبما أن عجلة الأسباب لا تتعلق بفلان أو فلان من الناس فقط فإن هذه الفتنة ستعم الجميع لا تفرّق بين هذا وذاك.
نعم فطبيعة الفتنة أنها عمياء صماء لا ترى من يقف بوجهها ولا تسمعه
ومع هذه الفتنة الإلهية التي تستجلبها البشرية بأفعالها نرى أن الكثير ممن لا يريد أن يصحو من غفلته يعود مرة أخرى فيتشبث بكلا الأمرين الذين ذكرا سابقاً.
فالكثير ممن استولى على نفسه رقي البشرية العلمي وتقدمها وتطورها التكنولوجي ولم يعد يرى غير ذلك سيزداد تمسكاً بهذه العلوم فيرى أن خلاصه من الفتنة يكون من خلال ذلك - وهذا بحد ذاته يحمل جانباً كبيراً من الصحة - لكننا وجدنا من بتمسكه هذا بالعلم والمعرفة والرقي التكنولوجي يلتمس الوسيلة ليضرب جانب الدين والمبادئ والأخلاق فينعتها بالقصور والفشل أمام هذه الفتن.
((رأيت بالأمس من تراه وكأنه شامت بإغلاق المساجد متهكماً من توجه مرضى المؤمنين الى المستشفيات . . !! والخلل فيه لا في المسجد ولا في المؤمن))
وكثير ممن استولى على نفسه الأمر الثاني الانغماس في حب الدنيا وشهواتها نراه يستغل الفتنة يستغل الامتحان ليزداد غيّاً فيثري من وراء استغلاله لهذه الفتنة في الكسب والتحصيل المالي على حساب المستضعفين من خلال المتاجرة والاحتكار ورفع الأسعار يرى في الأزمة والفتنة فرصة لا تعوض للثراء والمنفعة فيتمنى ان لا تنتهي !!
كما وتعصف الفتن - استجير بالله - حتى بدين أهل الدين وبالمؤمنين ولا تستثنيهم فيسقط فيها ضعيف الجذور ويثبت من أصله ثابت
حتى نجد بعض من يتصدى للوعظ ولقيادة الجماعات المسلمة يتخبط في تصريحاته ومواقفه ولا يقوى على المواجهة ويورد أتباعه المهالك فكيف بالبسطاء.
نعم ليس سهلاً على المؤمن من أتباع أهل البيت ع أن يخيّر نفسه بين زيارة إمام معصوم اعتاد عليها لسنوات وبين منع يصدر من مرجع غير معصوم . . ويتساءل هذا المؤمن : في زمن الامام العسكري ع وصلت ضريبة زيارة الحسين رقاب تسعة من عشرة من الزائرين ولم ينهَ الامام المعصوم عنها . . فكيف ينهى المرجع عن ذلك ؟ ونسبة الخسائر أعلى بكثير من خسائر فايروس الكرونا ؟؟
وليس سهلاً أن تمنع مسلماً عن عيادة مريض أو صلة رحم أو صلاة جماعة . . مستحباتٌ قضى عمره يتعبّد بها بنص الشرع وهي اليوم محرّمة عليه بالعنوان الثانوي وبأمر المرجع !!.
يرى قبور الطاهرين المطهرين وهي تعفّر وتطهّر!! . . فلا يستوعب ذلك
تلك هي الفتنة في الدين . . حين يرى أن الوباء يخطف أرواح كثير من المؤمنين ولا يراه موجهاً نحو الظالمين بل قد يُستثنى منهم الكثير!!. . حين يرى المدن المقدسة لا تستثنى من الوباء تلك هي الفتنة !!.
حينما يرى أن علماء الدين يسمعون لكلام الأطباء وكأن الدين قاصر على الوقوف بوجه الفتنة فيتهيأ للجاهل أن علماء الدين قد أعلنوا استسلامهم فما عاد علمهم بدينهم ينفعهم ولا عاد دينهم يغني في حل الأزمة
وأعداء الدين يستغلون الفرصة ببث سمومهم والدفع بهذا الاتجاه بإثارة الشبهة تلو الشبهة
عند ذلك تكون الفتنة في الدين . .
والكثير لا يعلم أن وظيفة الدين الأساسية هي كمال البشرية وسعادتها لا من حيث التطور العلمي والتكنولوجي - مع أنها لا تمنع من ذلك - وإنما من حيث رقيها الأخلاقي والإنساني والمبدئي المتمثل باتباع نهج الله الحق وصراطه القويم .
وأن الدين ليس من اختصاصه أن يبني بيتاً ولا أن يصنع سيارة ولا أن يصنع دواءً . . ولا أن ينسج قطعة قماش . . لذا فإن علماء الدين العارفين برسالتهم الحقّة إنما يشخصون ذلك ويعتبرون رأي العلماء في غير تخصصهم حجة عليهم وهم عليهم أن يسمعوا ويطيعوا .
نعم وظيفة علماء الدين أن يأخذوا بيد أفراد المجتمع الى بر الأمان في الآخرة قبل الدنيا . . وظيفة علماء الدين أن يقربوا الناس الى الله لا الى ما تطيب له نفوسهم من رغد العيش . . وظيفة علماء الدين أن يرتقوا بالناس ليحرزوا كمال الأخلاق لا ليحرزوا كنوز الأموال.
طبيعة الناس أنها تريد من علماء الدين وأهله كل ما يجول بخاطرها وكأن عالم الدين مسلط على مقادير الأمور وكأن اتباعه يمنح كل خير ويبعد كل سوء دنيويين . .
يذكر لنا القرآن بني إسرائيل يخاطبون نبيهم موسى ع ممتعظين { قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } (سورة الأَعراف 129) كانوا يتوقعون أن بعد مجيء موسى ستتحول الأرض الى جنة وسيرتفع عنهم كل البلاء . . لا يريدون إمتحاناً . . يريدون أن يتوقف تكليفهم؟؟
كانوا يظنون أنهم بعد مجيء موسى سينتهي بلاؤهم الدنيوي . . وهذا حال كل من يتبع عالماً من علماء الدين
والحق غير ذلك أبداً . . إتباع الأنبياء والأوصياء لا يرفع التكليف ولا يوقف الإمتحان . .
ووظيفة علماء الدين ليست إيقاف البلاء ومنعه عن الناس بل وظيفتهم كيف يعيش الناس هذا الامتحان بما يزيدهم قرباً من الله ويزيدهم سعادة في الآخرة
وظيفة علماء الدين إرجاع الناس لجادة الصواب فتنقشع عنهم سحائب الفتن المظلمة وتعود عجلة الكون لتسير على ما يرتضيه الإنسان
وظيفة علماء الدين يعلّمون الناس كيف يخلصون الدعاء لله فتنزل عليهم رحمات الله
وظيفة علماء الدين أن يعرّفوا الناس بعباداتهم ومعاملاتهم كي يتقوا الله فلا يسلط عليهم غضبه
رسالة علماء الدين العارفين رسالة عقل ووعاية .
رسالة حكمة ورشد . . رسالة ترى الدنيا بعين الآخرة لتبعث الأمل والطمأنينة في النفوس وتبين للناس أن العلم والدين على خط واحد ولن يفترقا . . وتعلم الواحد منّا أن يعيش إنساناً مع كل ما يعتريه من محن وابتلاءات . .
وتبقى الفتنة فرصة عظيمة لتصحيح المسار .
فرصة غنية بالمعطيات التي من خلالها يستطيع الواعي قراءة الأحداث من جديد ليرسم فكراً نيراً يصمد أمام الفتن القادمة التي يمكن أن تكون أكبر واجتيازها أصعب.
ـــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha