جعفر الحسيني
في الخمسينات والستينات ، كان المثقفون العرب ، ينظرون الى الانظمة الملكية ، نظرة ازدراء وتحقير ٠٠
اما اليوم ، فهم ينظرون اليها باحترام شديد ، ويطرونها ( والاطراء هو المبالغة في الثناء ) باعتبارها تجارب رائدة ٠٠
وهكذا هو العقل العربي بين افراط وتفريط ، فقد اقترن رحيل السلطان قابوس ، بالكثير من الاطراء ، وغاب تماما اي موقف نقدي ، واي تقييم موضوعي لتجربته ، بل تمناها هذا او ذاك لبلده٠ حتى ان صحيفة لبنانية وصفته بافضل حاكم في العالم ٠
ولذلك ستكون مهمة هذه المقالة تسليط الضوء على الجانب الاخر لتلك التجربة :
اولا : كان السلطان قابوس وحتى وفاته يشغل المناصب التالية : رئيس الوزراء، ووزير الدفاع، والقائد العام للقوات المسلحة، ووزير المالية، ووزير الخارجية، ورئيس المجلس الأعلى للتخطيط، ورئيس البنك المركزي العماني .
ثانيا : لا يستطيع أحد التحرك في عمان دون ان يجد ما يذكره بالسلطان اينما ذهب : فهناك جامعة السلطان قابوس ومسجد السلطان قابوس الكبير، ومستشفى السلطان قابوس، ومرفأ السلطان قابوس، وشارع السلطان قابوس، والقائمة لا تنتهي. باختصار شديد : كل شيء باسم السلطان وللسلطان وبالسلطان ٠
ثالثا : بعد نصف قرن من حكمه ، ترك السلطان قابوس شيئا اشبه بالدستور ، او قل دستورا يُعرف بالنظام الاساسي للدولة ، والذي يحصر كل السلطات والصلاحيات بالسلطان ، يعاونه مجلسان استشاريان : ( مجلس الدولة ) والذي يضم كبار موظفي الدولة الحاليين والسابقين ، و ( مجلس الشورى ) المنتخب ، والذي يشبه تماما ( المجلس الوطني ) بالعراق في عهد صدام ٠
رابعا : لم يسمح السلطان باي حياة سياسية او ثقافية في بلاده ، خارج السلطة ٠ وعندما مات لم تكن هناك صحافة حرة ، ولا اي نشاط ثقافي حر ٠ولذلك تُعتبر سلطنة عُمان من أكثر بلدان مجلس التعاون الخليجي انغلاقا ٠ وكمثال من امثلة كثيرة على تدهور أوضاع الحريات فيها ، جرى اعتقال هيئة تحرير صحيفة الزمن واغلاقها نهائيا - عام ٢٠١٦ - بسبب “نشر معلومات حول قضية فساد داخل جهاز القضاء”. ومثال آخر ، جرى اعتقال الكاتب العُماني حمود الشكيلي ، لمجرد نشره قصيدة نثرية ، على صفحته في الفيس بوك ٠
خامسا : بالغ السلطان في التطبيع مع اسرائيل ، من دون ضرورة او مصلحة وطنية وخلافا لالتزاماته العربية ( المفترضة ) ٠ ويبدو ان ذلك التطبيع قد وفر سندا امريكيا لنظامه ، وحال دون استهدافه من قبل الاعلام الغربي ٠
سادسا : بعد نصف قرن من حكم السلطان قابوس ، وفي بلد مساحته 309,500 كم٢ ، وعدد مواطنيه 2.8 مليون نسمة ، عانى الاقتصاد العماني من عجز متزايد في الميزانية ، وهو الأمر الذي يثير القلق حول قدرة عمان على الاستمرار دون إجراءات تقشفية شديدة. فالدين العام يمثل ما يقارب 51% من الناتج المحلي العماني ٠ ويستمر هذا الدين العام في التفاقم بفعل النفقات الحكومية المتزايدة ٠
سابعا : ان رؤية ٢٠٢٠ ، والتي تم تدشينها عام ١٩٩٦ ، والتي كانت تمثل الرؤية المستقبلية للاقتصاد العماني ، فشلت بشكل عام في تحقيق اهدافها الاربعة ٠ فالاعتماد على النفط - المهدد بالنضوب خلال ربع قرن - قد ازداد بدلا من تنويع الاقتصاد ، ومتوسط دخل الفرد قد تراجع ، والاعتماد المفرط على العمالة الاجنبية الرخيصة على حساب قوة العمل العمانية قد ارتفع ٠ اما النمو الاقتصادي المتوقع ان يصل 3.7% هذا العام 2020 ، فهو يرتبط بارتفاع انتاج الغاز الطبيعي ، مع بدء تدفق الانتاج من الحقول الجديدة ٠
ثامنا : يرى الكثيرون أن عُمان بلد مُستقرا سياسيًا، ولكن بسبب انتشار الفساد في دوائر الدولة ، وسيطرة عدد قليل من الاسر على اعمال الدولة وعقودها ، والشعور بان الثروة النفطية لم تعد موزعة بطريقة عادلة ، والبطالة ، ظهرت احتجاجات مطلبية في شوارع عُمان عام 2011 ٠ فلجأت حكومة السلطان للانفاق بسخاء على برامج التوظيف والإعانات الاجتماعية والبنية التحتية . الامر الذي ادى الى تفاقم الدين العام - كما ذكرنا - وهو ما ينذر باشتداد الازمة الاقتصادية في البلاد مستقبلا ، اذا ظل الحال على ماهو عليه ٠
تاسعا : يمتلك السلطان ثروة هائلة ، ويقال انه واحد من اغنى عشر ر بالعالم ٠ فهو يمتلك - مثلا - أكثر من خمسة يُخوت، أبرزها «آل سعيد» الذى يُقدر سعره بـ300 مليون دولار أمريكي، «فلك السلامة»، «لؤلؤة البحر» الذي يُعد أكبر يخت صُنع في ايطاليا، «زينة البحار»، و«النورس».
عاشرا : ولنختتم بالنقطة التي كان يجب ان نبدأ بها ، فالسلطان قابوس تولى السلطة في ٢٣ يوليو - تموز ١٩٧٠ ، بانقلاب على والده ٠ فقد ارسل احد عبيده اليه حاملا صك التنازل عن الحكم ، ولما رفض الوالد التوقيع عليه ، قام العبد باطلاق النار على قدميه ، فادرك الرجل لحظتها انه اذا لم يوقع فسيخسر حياته ، فوقع وغادر الى لندن حيث توفي - عام ١٩٧٢ - ودفن هناك ٠ وقد شهدت السنوات الخمس الاولى - من حكم السلطان قابوس - صراعا داميا مع ثورة ظفار ، راح ضحيته الالاف من الثوار والمدنيين الابرياء ٠ وقد دعا الكاتب والمخرج العماني المعروف عبد الله حبيب ، السلطان قابوس او بدقة الحكومة العمانية - عام ٢٠١٦ - الى ''ممارسة أبسط القيم الأساسية والإنسانية، من خلال الكشف عن مكان عدد غير معلوم من الثوار الذين دفنوا بعد إعدامهم''، وقال : ''نحن في انتظار قرار شجاع من الحكومة للإعلان عن ذلك، الأمر الذي سيسهم في إحداث إصلاح أو مصالحة وطنية''، واضاف : ''لن تتحول المقابر الجماعية إلى مزارات ثورية ٠٠٠ ( لكن من )حق الأم زيارة قبر ابنها في عيد''٠
المفارقة ان اشهر قادة ثورة ظفار ، يوسف بن علوي رئيس المكتب السياسي للجبهة سابقا ، انضم للسلطان قابوس مبكرا ، وتحديدا بعد شهر او شهرين من تسنمه الحكم ، وهو اليوم وزير الشؤون الخارجية ، وقد امضى في هذا المنصب اكثر من عشرين سنة ،٠ في موقف يذكرنا بموقف عزيز الحاج زعيم الحزب الشيوعي - جناح القيادة المركزية في العراق ٠
وثمة مفارقة اخرى قريبة الشبه بالمفارقة السابقة ، وتدلل على بؤس اغلب التجارب الثورية العربية وتفاهتها ٠ فحكام اليمن الجنوبية اصحاب الشعارات الماركسية ، والذين دعموا ثورة ظفار ، وقتلوا المئات او الالوف بتهمة العمالة للانظمة الرجعية العربية ، هربوا اخيرا بما تسنى لهم اخذه من اموال دولتهم - واقصد علي سالم البيض وجماعته تحديدا - ليعيشوا في كنف النظام الرجعي العميل في عُمان - كما كانوا يسمونه ٠
جدير بالذكر ايضا ، ان عائلة القذافي وابنته عائشة ، لم تجد مَن يستضيفها ، وقد ضاقت بهم الارض ، سوى السلطان قابوس في عمان ٠
https://telegram.me/buratha
![](https://telegram.org/img/t_logo.png)