ابراهيم العبادي
فور انتشار رسالة رئيس الجمهورية الى البرلمان في السادس والعشرين من كانون الاول 2019 ،صار مؤكدا ان جمهورية 2003 قد سقطت بشكل رسمي ، ولم يعد ممكنا ترميم العملية السياسية العراقية بالسياقات والاعراف التي اعتمدت منذ ذلك التاريخ ،فحينما لايعود الدستور حاكما للسلوك السياسي لكل القوى والاطراف السياسية في البلاد ،وحينما تغدو نصوص هذا العقد السياسي مائعة وتستخدم ذرائعيا وشكليا في غير مقاصدها الحقيقية ،لايعود لدى الناس ماينظم حياتهم السياسية ويحل خلافاتهم وينظم قوانينهم وتشريعاتهم ،عندها تعيش الدولة حالة تيه وضياع ، تتيح لجماعات منظمة او شبه منظمة القفز السريع ، وربما العنيف الى دفة الحكم ، عبر الاستقواء والضجيج الاعلامي والفعل السري ، وتصبح الهياكل الدستورية خاوية وغير ذات اثر عملي .
منذ ظهور الدولة الحديثة وهيمنة فكرة الدستور كناظم للفعل السياسي ،،تسالمت القوى العقلانية في المجتمعات الحديثة ، على جعل هذا القانون الاساسي ، المرجع النهائي الذي يفصل في اختلافات الناس وتناقضات مصالحهم واهوائهم ، فيما ترفض القوى الفوضوية ، او الجانحة للفعل الانقلابي والثوري ، الصيغ الدستورية ولاتعير قيمة لمبادئ الدستور ومضامينه وجوهره ،وبتنامي الصراع بين القوى التي تريد العمل تحت سقف الدستور، والقوى التي تريد استخدام الدستور اداة للوثوب الى السلطة ،تصبح هذه القوى فوق الدستور ،وفوق الدولة ، وغير مستعدة للتفاهم مع القوى الاخرى ، لضمان سلامة البلاد وصون الامن والسلم الاهلي .
تاريخ العراق السياسي كان في جوهره تاريخ صراع بين قوى دستورية وقوى تستخدم الدستور بشكليه الدائم والمؤقت ،او رافضة لهذا الدستور ومنقلبة عليه ، وكان حريا بالعراقيين بعد ضياع مائة عام من عمر الدولة ،ان يكتبوا دستورا واضحا مرنا ، لايقبل تأويلات كثيرة ، ويعالج كل حالات الاختلاف السياسي واصناف الفعل وتقلبات الحال السلطوي .
في نهاية كانون الاول من عام 2019 سيسجل التاريخ العراقي سقوط التجربة الدستورية مجددا ،وضياع الدولة تحت اقدام المتصارعين المحليين والاجانب وادواتهم ، وفتح الابواب مشرعة للعنف السياسي ،بعدما لم يعد للسلطات شوكة ، وليس لديها ارادة لمنع الانزلاق نحو الحروب الاهلية الصغيرة والكبيرة . في مثل هذه الحالات تلجأ الناس الى القوى المؤثرة ، كالفاعلين الدينيين والشخصيات الاجتماعية ذات النفوذ والتأثير ، والمؤسسات الدولية التي تحمي السلم والامن بشرعة الامم المتحدة وقرارات مجلس الامن ، ومفاد القوانين الانسانية بما فيها التدخل الاجنبي .
العراق بات اليوم مكشوفا بفعل الصراع السياسي الداخلي ، الذي بدأ شيعيا ، وسيتحول الى صراع مكونات ، وينتهي الى صراع احزاب وجماعات وفصائل مسلحة ، الركن القوي الشديد الذي بقي لدى الشعب ويحظى بالتأييد والاحترام المحلي والدولي هو مرجعية النجف التي رسمت واوضحت ونصحت ،والجميع يهتف بأسمها علنا ، ويرفع صورها لكن كثيرين يخالفونها في السر والفعل السياسي ولكل منهم مرجعيته الدينية والسياسية والفكرية ، ولايجد نفسه ملزما بنصائحها وخارطة طريقها .
منذ المدونات الاولى للفقه السياسي الاسلامي ،حرص فقهاء المسلمين على منع الاحتراب الاهلي ، وحذروا من الوقوع في الفوضى ، وشددوا على بقاء السلطة ممسكة بزمام الامور استنادا الى القول المأثور الشهير ولابدية الحكومة والسلطة والامامة ،بحسب مصطلحات الفقه السياسي ، هذا يستلزم عقلانية وحكمة واعتدال ، وعقل غير فاسد وليس به نقص ،عكس ذلك ، هو الحمق والعته الذي يخشى منه العقلاء ،ونحن في العراق نعاني من حمق سياسي شديد ، من اكبر علاماته نقص الحكمة والاستهانة بمصائر البشر ، وسيطرة العنف على اخلاق السياسة ،واسترخاص الدماء ،والتحجر الناجم من تصنيم المواقف وهيمنة نظرية المؤامرة ،البلاد في مهب الريح ،والناس تخشى من نذر الحرب ،ورحم الله من حمل للعراقيين درهم عقلانية وحكمة قبل ان يسد الحمق السياسي المنافذ على كل الحلول .
https://telegram.me/buratha
![](https://telegram.org/img/t_logo.png)