التظاهر حق مشروع ولاشك ... هدفه الأساسي إصلاح الأوضاع العامة او الدفاع عن حقوق هدرت بالطرق المشروعة السلمية، ولا مجال هنا للمقولة المشبوهة (الغاية تبرر الوسيلة) التي اسقطها التعامل السياسي الوطني من حساباته في جل دول العالم وإن بقى صداها في التعاملات الدولية... كما لا يمكن الاقتناع ان التظاهر عمل عفوي، فهو عمل منظم معد له تماماً واصبح وسيلة من وسائل الاحزاب السياسية والجمعيات الناجحة لفرض إرادتها السياسية بالطرق السلمية، فضلاً عن استغلال المخابرات الدولية للتظاهرات واندساس عملائها فيها لإحداث تغيير في موازين القوى المحلية والإقليمية، فالعفوية من النوادر والعبرة بالشائع الغالب لا القليل النادر ... ويلاحظ إبتداءاً على التظاهرات في العراق انها حملت افكاراً عامة سامية تدعو للإصلاح السياسي ومكافحة الفساد الذي طال جل حياة العراقيين وحقوقهم الوطنية في ثروات بلدهم.
إلا ان هذه المظاهرات لم تصل الى تحقيق اهدافها، بل انها انفلتت وخرجت عن السيطرة في بعض الأحيان وانحرفت عن اهدافها الإصيلة، ووصل الوضع الى إنها تطاولت على رموز وطنية تاريخية (الشهيد باقر الصدر مثالاً) وشوهت صور لشهداء قدموا حياتهم الغالية للدفاع عن العراق وشعبه وكثر الحديث عن المندسين وإختراق البعثيين والدواعش ... وسبب هذا الفلتان والأنحراف يعود الى طبيعة هذه المظاهرات في العراق ..
فهي أولاً: مظاهرات غير متجانسة فكرياً، بمعنى إنها تضم جموعاً من ثقافات شتى، بينهم البسيط الجاهل والمثقف ذو التأهيل العالي، بينهم المتدين وغير المتدين، العلماني والإسلامي المتطرف، بل حتى النزيه واللص. ومثل هذا الوضع يشتت الاهداف ويذهب بقيمتها ويحولها احيانا الى مطالبات ذات طبيعة شخصية بحتة.
ثانيهما: انها تظاهرات بلا قائد ميداني وسط الساحة يقود توجهات الجماهير وتنصاع لتوجيهاته المعنوية والأخلاقية المباشرة.
وثالث هذه الملاحظات، وهذه نتيجة منطقية لما تقدم، انها سهلة الاختراق.
وعلى سبيل المقارنة، كانت التظاهرات في خمسنيات وستينيات القرن الماضي في العراق منظمة تنظيماً دقيقاً يشارك فيها الرجال والنساء ولم تسجل خلالها اية خروقات عدوانية، والسبب انها كانت مظاهرات متجانسة الى حد ما فكرياً( مظاهرات للعمال، مظاهرات للأدباء والمثقفين، مظاهرات حزبية، مظاهرات نسوية، ...) وتقودها على اختلاف شخوصها قيادات ميدانية وكانت صعبة الاختراق.
ماذا ينتج عن عدم التجانس او عدم وجود قائد ميداني .... لاشك انه الفوضى واللاعقلانية وانعدام المنطقية في السلوك والتصرفات.
فضلاً عن هذا مدعاة لدخول اجندات متهيئة لاقتناص الفرصة محاولة لتوجيه المظاهرات لأغراض مبيتة تحرف المظاهرات عن هدفها الأصلي، ومن هذه الأجندات بالتأكيد اجندات مخابراتية واعلامية متخصصة ومدربة على استغلال مثل هذه الاوضاع، خاصة وإن العراق وشعبه يقود نيابة عن الإنسانية جمعاء حرباً مقدسة ضد قوى الظلام والشر مما حدا بتلك الاجهزة لإستغلال هذه المظاهرات لفتح جبهة نزاع داخلية بين العراقيين انفسهم ....
ان التظاهر يخضع لقواعد ما يعرف في علم النفس الإجتماعي بــ (العقل الجمعي) ويسمى احيانا من قبل بعض الباحثين بـــ (الأثر الاجتماعي المعلوماتي) الذي ينتج عن سطوة الجماعة على عقل الفرد، وأثر سطوة الجماعة على الفرد تظهر في قابلية الأفراد إلى الانصياع إلى تصرفات معينة بغض النظر عن صوابها من خطئها في ظاهرة تسمى في علم النفس بــ (سلوك القطيع).
ويمكن تعريف (العقل الجمعي) بأنه: ظاهرة نفسية هي أحد أشكال الانصياع والإذعان، تفترض فيها الجماهير أن تصرفات الجماعة في حالة معينة تعكس سلوكاً صحيحاً، وتفقد الجماهير قدرتها على تحديد السلوك المناسب، وبدافع افتراض أن الآخرين يعرفون أكثر منهم عن تلك الحالة. والعقل الجمعي له خصائص جديدة مختلفة تماما عن خصائص عقليات الأفراد المكونة له وتختفي شخصيتهم الواعية.
وأظهرت الدراسات ذات العلاقة أن السلوك الجمعي قد يدفع الجماعة إلى الانحياز سريعاً إلى أحد الآراء او التصرفات. فعندما يفقد الفرد قدرته على اتخاذ موقف من أمر معين، يلجأ إلى الآخرين بحثاً عن مؤشرات وعن القرار الصحيح والموقف المناسب لتجنب النظر إليه بسخرية.
وعلى سبيل المثال تستخدم المسارح أحيانا حضور مزرعون بشكل خاص الذين قد أعطو تعليمات ليصفقوا تصفقيا حارا في أوقات معينة، هؤلاء الناس هم من يصفق بدايةً فيتبعهم باقي الجمهور وهذا معناه ان العقل الجمعي يمتلك قيمته عندما يكون ما يهم هو أن تكون على حق في نظر لغير، وتعتقد بأن الآخرين هم أجدر بمعرفة الحق. ورغم أن هذه الظاهرة السيكولوجية
ورغم أن هذه الظاهرة السيكولوجية تختلف وتتباين وفقا للثقافة، والموقف والظروف المحيطة، فإن الدراسات أظهرت أن تلك الظاهرة تعيق وتمنع القدرة على الحكم الشخصي، وتلغي المعايير الاجتماعية، وتجعل الناس أكثر تأثراً بالإيحاء وبأفكار الآخرين بطريقة مثيرة للغاية.
وترى النظريات النفسية الحديثة ان ما تقدم لا يمكن ان يحدث بوجود قائد ميداني يفرض سلوكه الأخلاقي الواعي على الجماهير ويقودها نحو تحقيق الأهداف دون أن تظهر نوازع الشر والعدوان على الاشخاص والممتلكات العامة. كما إن بطأ الاصلاحلات وعدم مواكبتها الى تطلعات الجماهير قد ينذر بعواقب وخيمة، حقاً ان التظاهرات المنفلتة بقت لحد الآن امراً محدوداً ولكن هذا ليس خبراً مفرحاً لساستنا ذوي الخبرة المحدودة، فالحال كما ثبت من واقع الحياة السياسية المعاصرة ان رد الفعل المحدود الصغير قد ينمو ويكبر ومن ثم يصعب حينئذ السيطرة على الوضع، فظاهرة الفلتان كالحريق إن لم تتمكن من خمده في بدايته فإنه سيلتهم كل شيء في النهاية، وهناك اشارات واضحة ان ظاهرة الفلتان في التظاهرات تنمو وتتسع نوعياً ومكانياً وإن لم تصل بعد الى مرحلة الخطر المحدق.
ومن الطريف ان نذكر إن للعقل الجمعي أثره في مصير الحروب، فقد يتسبب جندي واحد في خسارة معركة خطط لها بكل عناية، اذ تذكر احدى الروايات التاريخية انه في أحد المعارك الاشورية الروتينية ان أحد الجنود الاشوريين أصيب بنوبة من الهلع وبدأ يصرخ (لقد فقد قائدنا عقله) وعلى الفور ترك جنود الدولة الاشورية اسلحتهم ولاذوا بالفرار بعد ان كانوا على اعتاب النصر المحقق.
وفي غزوة أحد صاح احدهم ان الرسول صلى الله عليه وسلم قد قتل فأنسحب بعض المسلمين وكان ذلك سبباً في هزيمة المسلمين في تلك الغزوة.
https://telegram.me/buratha