الوحدة مبدأ عظيم يمنح الجماعة والبلاد قوة عظيمة.. وسلامة المنهج مبدأ عظيم يضع الجماعة والبلاد على الطريق القويم.. وكلاهما ركنان اساسيان لبناء اية امة.. لكن لا الوحدة لها اطارات واحدة وثابتة، ولا العدالة والمناهج السليمة من المتيسر الوصول اليها دائماً، فما كان صحيحاً بالامس قد يكون خاطئاً اليوم.
تعاني جميع الكتل السياسية اليوم من انقسامات خطيرة، ليس في وحدتها فقط، بل في البحث عن سلامة مناهجها وخططها ورؤاها. وهو امر صحيح بين القوى الكردستانية التي تمر بمرحلة صعبة في تقرير مستقبلها، وفي الوصول الى فهم مشترك في حكومة الاقليم، وفي علاقة الاقليم وقواه السياسية ببقية القوى العراقية وببغداد. وهو صحيح ايضاً بين القوى "السنية" وحماية نفسها من مظالم "داعش"، وعلاقتها ببقية المكونات والدولة والسلطة، ومنع تهميشها وعزلها والتلاعب بمقدراتها، وامتداداتها العربية، خصوصاً بلدان الجوار. وهو صحيح ايضاً بين القوى "الشيعية" التي تسعى للاحتفاظ بوحدتها ولو الشكلية، ولابقاء دورها النافذ في الدولة والسلطة، وللدفاع عن واقعها باعتبارها الاغلبية السكانية للبلاد، ولحماية نفسها من انقضاض الخصوم عليها، وتهميشها واضطهادها مجدداً، ولدرء الانقسام والتنافس الداخلي بين تياراتها وقياداتها.. ذلك كله دون الكلام عن بقية الكتل وطبيعة علاقاتها الداخلية او في علاقاتها بالاخرين. فالجميع يتخوف من انه دون الوحدة ولو الشكلية بين قواه، فان اوضاعه ستكون اصعب مع بقية الشركاء. رغم ان الحياة تعلمنا انه دون تبني المناهج الصحيحة، فان اعظم اشكال الوحدة ستتفكك. فمرتكز الوحدة الاساس وطنياً وعلى صعيد كل جماعة هو النجاح.. وللنجاح شروط ومتطلبات ان لم تتوفر فالفشل سيكون النتيجة الحتمية التي لا يريد احد تحمل نتائجها، وهو ما يحصل.
ان الازمة الحالية –ان تركنا المطامح والمناورات والاغراض الشخصية- هي تراكم هذه الازمات داخل كل كتلة، وعلى الصعيد الوطني. ويبدو ان الواقع يدفع الى ما تم الكلام به مراراً من اهمية تشكيل اغلبية برلمانية سياسية عابرة للمكونات. هدفها ازالة مخاوف المكونات فيما بينها، والانتقال بالبلاد من "الديمقراطية التوافقية" التي ادت دوراً في المرحلة الماضية، واصبحت معرقلة الان، الى "ديمقراطية الاغلبية السياسية العابرة للمكونات"، حيث الاولوية التفاف اطراف من مختلف المكونات حول المناهج وليس على اساس الهويات فقط. فنتحول من نظام المحاصصة الى نظام "الاغلبية والاقلية السياسية"، التي تجد جميع الهويات مكانها حسب برامجها الوطنية والمحلية. وسيتكامل هذا النظام مع تأسيس "مجلس الاتحاد"، وتعزيز السلطات والصلاحيات الفيدرالية واللامركزية التي باتت تتمتع بها الحكومات المحلية، والذي يلتقي كله والمباني الدستورية.
يبدو هذا الكلام بسيطاً لكنه صعب ومعقد على ارض الواقع وفي الظروف العراقية والاقليمية المحيطة. ومن لم تقنعه هذه الازمة فستقنعه ازمات قادمة. فالظروف الحالية والمستقبلية تدفع لتحقيقه، فان سرنا بهذا الاتجاه، فسنقلل كثيراً من سياسات التمترس والانكفاء داخل الكتلة الواحدة بكل الخلفيات الطائفية او الاثنية. وان التطورات الاخيرة تشير الى انهيار المعادلات السابقة سواء في مفهوم الوحدة او مفهوم المناهج التي طبقت خلال اكثر من عقد. وان قسر المعايشة بين اطراف متناقضة في مناهجها باتت مهددة لوحدة الوطن وليس وحدة الكتل او المكونات فقط. وانه لابد من الذهاب للامر الطبيعي وتطبيق المباني الدستورية القادرة على بناء وحدة ارقى، باطر جديدة تجمعها، وبسياسات ومناهج لا تخفي الاختلاف، وتعترف وتحمي حق الاخر. لتبني الدولة والحكومة سياسات اكثر فاعلية وجدية ووضوح، تتبارى والشعب يقرر، بدون اغطية من الوحدة الشكلية. الامر يبدو صعباً، لكنه اتٍ لا محالة. بخلافه ستبقى الكتل والمكونات منكفئة على نفسها.. تقاتل كل منها من مواقع الانقسام فيما بينها ومع شركائها في الوطن، وسنستمر باعادة انتاج الفشل والطائفية والمحاصصة وكل الامراض المرافقة، ان لم نخرج الى معادلة جديدة بولادة متدرجة وطبيعية، فان لم نفعل فستاتي الولادة مفاجئة وقيصرية.
لاشك ان مشاكل جديدة ستبرز في مواجهة هذا التطور الجذري في مباني العمل السياسي.. وهذا امر طبيعي، فلكل مرحلة مشاكلها التي ان لم نتصدَ لحلها في وقتها، فستاتي ازمة كالازمة الحالية وتفرض علينا "حلولها"، لكن بعد ان نكون قد دفعنا اثماناً باهضة.
عادل عبد المهدي
https://telegram.me/buratha