الى جانب الانقسام الدرامي في كيان مجلس النواب العراقي إثر حركة الاعتصام الأخيرة لحشدٍ من أعضائه، وما رافق ذلك من تداعيات كثيرة غير مسبوقة (بعضها خطير)، تشكلت حزمة من الأسئلة العاجلة، والمدببة أحياناً، يفترض أن ينبري النواب المعتصمون الإجابة عليها دون غيرهم، لأنها ستبدد الكثير من الإبهام، وتوضح منطلقات حركة اعتصامهم، بعيداً عن التزاحم الحاصل في توضيحات وتفسيرات وتصريحات وبيانات أغلبهم، والتي (حسبما رشح) قد شوّشت كثيراً على حقيقة وماهية تلك المنطلقات، كما أربكت الأولويات التي يتطلب من الشارع العراقي أن يمسك بتلابيب فهمها، كل الشارع بجمهوره وحراكه وأغلبيته الصامتة، ليحدّد موقفه الواعي (وليس العاطفي والانفعالي) من الحركة النيابية القائمة، رفضاً أو تبنياً، انحيازاً أو حياداً، اذ هذا سيكون أسلم وقعاً وأكثر إنصافاً للحقائق كما هي، لا كما تتجاذبها أطراف العملية السياسية جميعاً (الداخلة في اللّجة)، حيث كلّ يجرّ النار الى قرصه!
بالتأكيد هذه الأسئلة ما كانت لتتشكل لولا الضبابية التي اكتنفت مواقف ومنطلقات ومسوغات حركة اعتصام النواب، أو على الأقل تضاربها على لسان المعتصمين، رغم كل ما صدر عنهم من خطاب وطني منمق، مشحوناً بالغضب، والوعيد ضد المناوئين، اذ يبقى كلاماً مكرراً ومطاطيّاً، قد طرق أسماع المتابعين سابقاً آلاف المرات؛ بل ويكرره الطرف الآخر المناوئ للمعتصمين، من ذلك مثلاً؛ "الارتقاء بالعملية السياسية لمستوى التطلعات الوطنية"، و"نبذ المحاصصة"، و"محاربة الفساد"، و"إرساء الإصلاح على أسس لا تخضع للمحاصصة ولا لإملاءات الكتل والكيانات"! بينما من يمسك بجمر هذه الأسئلة هو المواطن العراقي الذي ما زال محبطاً ومستاءً، بواقع انه يلمس تجاهل الطبقة السياسية (بصورة عملية) لمعاناته اليومية المزمنة، كما يشهد تناسل الأزمات التي تحيل واقعه الى علقم، بالإضافة الى تردّي الخدمات الأساسية، وتفشي البطالة، وتَغوّل الفساد الضارب في مفاصل الدولة، ناهيك عن تكالب الطبقة السياسية على مصالحها الفئوية الضيقة، بما تؤزّم العملية السياسية، وتكثّف من حالة الإحباط العامة وانسداد أفق الخروج من النفق المظلم!
من هذه الأسئلة التي تُوجَّه الى النواب المعتصمين، على أمل أن يتقبلوها بروح رياضية وجرعة عالية من الديموقراطية:
- كيف يمكن حلّ التناقض بين مناداتكم بـ"وجوب عدم الرضوخ لإملاءات الكتل والكيانات والزعامات ومراكز القوى"، وبين حقيقة ان غالبيتكم ينتمي الى كتل وكيانات، وكان يطبّق تعليماتها بحذافيرها حتى قبل ساعات من الاعتصام الأخير؛ بل وما زال يكرر أغلبكم مقولات و"مطالب" طبق الأصل لكتلته وكيانه، والأنكى أن منكم من يغيّر مواقفه في اليوم التالي، طبقاً لاهتزازات المواقف و"توافقات اللحظات الأخيرة" للكتلة والكيان؟!
- كيف تقنعون الجمهور (الذي تناشدون مؤازرته) بأن جوهر حركة اعتصامكم هو تدعيم أسس "محاربة الفساد والفاسدين"، في حين هناك العديد بينكم من أعضاء أو "زعماء" الاعتصام ممّن عاثوا في البلاد فساداً، وهم دون الشبهات، اذ تلاحقهم اتهامات قوية وجادّة بالفساد؛ بل وجاهر أحدهم مؤخراً علناً (مشعان الجبوري) بأنه مارس الفساد الإداري وتلقى رشوة، فضلاً عن ان أحد المعتصمين كان قد أفلت (بتدخل من كتلته) من إدانته قضائياً بأنشطة إرهابية وفق "المادة 4 إرهاب"؟!
- لقد انتخب ناخبوكم غالبيتكم على انكم تنتمون للكتلة الفلانية أو الائتلاف الفلاني، وليس على أساس انكم مستقلون، واليوم تزعمون أنكم نأيتم بمواقفكم عن تلك الكتل والكيانات.. ألا يعني هذا انكم لا تمثلون بذلك من انتخبكم بالدرجة الأولى، أو بكلمة أخرى؛ هو انقلاب على ناخبيكم، مع العلم انه لا مجال هنا لترديد القول بأنكم تمثلون كل العراقيين، لأنه كلام فضفاض عابر للعقول في ظروفنا الحالية، كما ان ذات اللافتة يرفعها المناوئ لحركتكم أيضاً؟!
- ما رأيكم في الإثارات المتداولة بأن كثيرين منكم قد فقد شرعيته السياسية وتدنّت "شعبيته" الى القاع منذ زمن، وان انخراطه بحركة الاعتصام ربما يضمن له استرداد بعض من تلك الشرعية، أملاً في العودة الى الواجهة بحدّ أدنى منها في المرحلة المقبلة الحبلى بالتطورات؟!
- هل من المبالغ فيه ان يتم وصف غالبيتكم بأنكم كمن يقفز من المركب الذي يغرق الى حركة الاعتصام (تطلعاً الى ضمان موقع ودور في المرحلة المقبلة)، والمركب المقصود هنا هو الكتل والكيانات والتحالفات، أي بكلمة أخرى انكم تركبون الموجة، باستثمار حراك الشارع اليوم، وان مقولة "صحوة الضمير" ينبغي أن يكون لها كثير من المقدمات لم يلمسها أحد من أغلبكم حتى اللحظة؟!
- ألا يحق لجمهور عريض أن ينظر بريبة الى حماس بعضكم لشخصنة حركة اعتصامكم، والنيل من أو تصفية حسابات شخصية ضد الرئاسات الثلاث (بدافع شخصي أو بتوجيه من الكتلة والكيان)، وكانت البداية (الأيسر) بإقالة رئيس المجلس، خصوصاً وان بعض زملائكم المعتصمين لا يخفي تربصه للأخير منذ مدة، وينتظر الفرصة لتصفية حساباته، ويبدو ان الاعتصام قد أتاحها له بسهولة؟!
- أما يشكّل عدم وجود برنامج عمل مسبق وخارطة طريق متفق عليها من طرفكم كنواب معتصمين من شأنها أن تقنع الجمهور العريض، عائقاً كبيراً يحول دون كسب تأييد هذا الجمهور، خصوصاً وان ما يصدر منكم هو مواقف مرتجلة، بعضها يتخذ طابعاً إنشائياً في رسم صورة "الممكن" حالياً وفي المرحل المقبلة، رغم ان الحراك الشعبي قد رفع من سقف مطالبه مؤخراً، ويعوّل على تغيير حقيقي جذري (غير فضائي) بالأفعال لا بالأقوال، ويصرّح بأنه سئم مناورات مجلس النواب، وكذلك الكتل والكيانات؟!
- ما ردّكم بأن بعض الكتل تدعم بقوة اعتصامكم من وراء ستار عبر نوابها، وأيضاً عبر أساليب أخرى، بغية قلب الطاولات في المجلس، بعدما خلصت الى أنه آن الأوان لإعادة ترتيب مكعبات البيت السياسي (والحكومة) بمحركات المرحلة المقبلة، بما يتلاءم مع مصالحها، أو يرمّم ما تآكل من "حصصها" ونفوذها وتأثيرها في العملية السياسية؟!
- بماذا تجيبون القائلين بأنكم لم تكونوا بحاجة الى كل هذه الجَلَبة وشق المجلس لتحقيق مطالبكم، ومنها التصويت على إقالة رئيس المجلس ونائبيه، ما دامت السياقات الدستورية والنظام الداخلي يضمن لكم ذلك، حتى لو تمت المماطلة لجلسة أو جلستين من رئاسة المجلس، علماً ان هناك اتهامات بأنكم أقدمتم على الاعتصام بغية "تخريب" عملية التصويت الطبيعية على كابينة العبادي المقترحة الأخيرة، وانكم مع كتلكم (عدا المستقلين طبعاً) لديكم "مرشحين" وزاريين بعينهم تريدون فرضهم قسراً؟!
- ألم يكن خيار حلّ المجلس هو الخيار الأفضل لحسم الأمور، كخطوة يرتجى منها طمأنة المواطن، وفرز الأوزان الحقيقية في العملية السياسية، والذهاب الى انتخابات مبكرة تحسم مكانة "الشرعيات" السياسية جميعها، وتُشكّل مرتكزاً عملياً للقضاء على المحاصصة (التي غذّت الفساد المستشري)، وعلى هيمنة الكتل والكيانات ومراكز القوى، شرط أن تتم محاصرة "المال السياسي" في الانتخابات المرجوة وتجريده من سطوته، كما يتم تقويم عمل "المفوضية العليا المستقلة للانتخابات"؟!
- هل تعويلكم اليوم على دعم المرجعية العليا (وانتم لم تستشيروها سلفاً) أمراً واقعياً، بغية توظيف شرعية بهذا الثقل ضمن الصراع السياسي؟!
* * *
حسناً، ينبغي الاعتراف بأن الواقع العراقي اليوم هو بحدّ ذاته يمثل سؤالاً ميتافيزيقياً كبيراً، يقضّ مضاجع الجميع، وعلى رأسهم المواطن العراقي المنكوب بأزمات الواقع السياسي، أليس كذلك؟!
https://telegram.me/buratha