مرت سفينة العراق على مدى ثلاثة عشر عاما من الصراعات السياسية العقيمة بأمواج عاتية كادت أن توصله إلى قعر الهاوية بعد أن تراكمت المآسي فوق بعضها نتيجة تعنت وعدم كفاءة العديد من السياسيين الماسكين بزمام الأمور والذين تصوروا إن الإمساك بالسلطة والحصول على المكاسب والمغانم من خلالها هو غاية الغايات بالنسبة حتى إذا احترق الوطن برمته. وقادتهم تصوراتهم وأحلامهم المريضة إلى الإعتقاد بأن الشعب غافل عن لاأباليتهم و تقصيرهم وأباطيلهم وتجنياتهم وسرقاتهم التي وصلت إلى حد باتت رائحتها تزكم الأنوف. فصاروا مضربا للأمثال في الفشل وسوء الإدارة والفساد ، وإهمال الطبقات الفقيرة بعد أن وصلت موازنات العراق السابقة إلى 140 مليار دولار سنويا .ولم تترك هذه الموازنات الضخمة أي أثر إيجابي في حياة الشعب على صعيد الخدمات لابل زادت من معاناة الفقراء ومآسيهم وإحباطاتهم عاما إثر عام.
وقد استغل أعداء العراق من أيتام الدكتاتور المقبور ومن يساندهم من حكام دول الجوار والتي تعشعش الطائفية في عقولهم ودمائهم هذه الأوضاع المزرية وتذرعوا بأقوال بعض هؤلاء السياسيين الكاذبة الذين تصوروا إن الإستقواء بحكام الظلم والطائفية سيحقق مصالحهم الفردية الأنانية. وتعرض الوطن إلى المزيد من الطعنات الخارجية نتيجة لضعف الحكومات المتعاقبة التي تأسست على شفا جرف هار من المحاصصات الحزبية والطائفية والعشائرية والتي أدت إلى تفشي الضعف والفساد في أوصالها. ووجد الإرهابيون فرصتهم الذهبية من خلال مفخخاتهم، وقنابلهم الموقوتة وأحزمتهم الناسفة التي يطوقون بها أجسادهم النتنة لقتل أكبرعدد من الناس الأبرياء.
ولبث روح اليأس في نفوس العراقيين قسفكوا أنهارا من دماء الأبرياء، وانتشرت الفواجع في كل شبر من أرض العراق، وبات الوطن على شفير الهاوية. وثالثة الأثافي إحتلال الدواعش لأجزاء واسعة من أرض الوطن وارتكابهم أبشع الجرائم بحق الشعب وتشريدهم للملايين من أهل المناطق التي استولوا عليها ، وتحول العراق إلى وطن تحدث فيه أكبر المآسي الإنسانية. وقد بُحت الأصوات المخلصة المحذرة من هذا الإنهيار الخطير وعلى رأس هذه الأصوات صوت المرجعية الرشيدة التي حذرت لمرات كثيرة، لكن أكثر السياسيين ركبوا رؤوسهم، وعزلوا أنفسهم عن الشعب. ولم يلمس المواطن العراقي من ( ممثليه) البالغ عددهم 328 نائبا والمتمتعين بامتيازات كثيرة لايستحقونها غير المماطلة والتسويف ،وهدر الوقت، والدخول في مجادلات عقيمة خاوية. وخطابات جوفاء واهية، وتناسوا قسم الحفاظ على تربة العراق ووحدة شعبه، ولن يتحملوا المسؤولية بشرف السياسي الصادق المؤمن بخدمة شعبه بعدم إصغائهم إلى النداءات والنصائح التي كان المخلصون يطلقونها.
فعطلت القوانين، وتأزمت الأوضاع السياسية والإجتماعية ، وخاب أمل الشعب بعد أن بلغت القلوب الحناجر. فلجأ إلى المظاهرات التي نص عليها الدستور ومن ثم الإعتصامات للتعبير عن المرارة وخيبة الأمل التي تعاني منها الجماهير من هذه المجموعة السياسية التي أصرت على نهجها الخاطئ والمدمر للوطن. وتصاعدت هتافات الجماهير مع الأيام للمطالبة بالإصلاح الشامل الذي يجب أن يطال السلطات الثلاث التي لم تكن بمستوى المسؤولية أبدا. وكان الإنضباط العالي الذي أبدته الجماهير في ساحات الإعتصام يدلل على وعي الشعب العراقي بخطورة المرحلة. فخيبت تلك الإعتصامات آمال الذين تمنوا أن تفضي إلى متاهات تضيف مآس أخرى إلى المآسي المتراكمة في العراق، وكانت الجماهير المعتصمة تدرك تماما إن الأعداء الدواعش ومن يؤيدهم في الداخل والخارج من الذين في قلوبهم مرض ويذرفون دموع التماسيح على العراق، وكانوا يمنون أنفسهم أن يتم التصادم بين المعتصمين والقوات الأمنية حتى تسفك الدماء ويدخل العراق في دوامة جديدة من العنف والفوضى.
ولكن خابت أحلامهم ورد العراقيون الأصلاء الشرفاء كيدهم إلى نحورهم بعد أن قدم السيد رئيس الوزراء تشكيلته الوزارية الجديدة المؤلفة من 16 وزيرا من التكنوقراط المستقلين عدا وزارة الدفاع والداخلية للظروف الأمنية الطارئة إلى مجلس النواب للمصادقة عليها ورد السيد مقتدى الصدر على تلك الخطوة وإن جاءت متأخرة بخطاب إيجابي ناضج، وعلى درجة عالية من المسؤولية، وطلب سماحته من المعتصمين أن يفضوا إعتصامهم بهدوء ودون أي احتكاك مع القوى الأمنية، وحذرهم من سفك قطرة دم. وبذلك فوت الفرصة على أعداء العراق وتمنياتهم الخائبة. حيث قال في فقرة من خطابه الموجه للجماهير المحتشدة أمام بوابات المنطقة الخضراء ردا على خطوة العبادي الأولى في طريق الإصلاح الشامل:
(هذه واحدةٌ من ثمار اعتصامكم واحتجاجاتكم ليتم التصويت على أعضاء الحكومة الجديدة بعد التأكد من سلامة موقفهم من ناحية النزاهة والمسائلة والعدالة.
لتكون الموافقة عليها من قبل النواب خلال اسبوع أوعشرة ايام تقريباً لا أكثر وطلب الاستمرار بالتظاهرات السلمية الحاشدة بعد كل صلاة جمعة وفي كل محافظات العراق. وكلٌ في مكانه للضغط على البرلمانيين للتصويت على هذه التشكيلة الوزارية لتكون بعيدة عن سلطة الحزب وحزب السلطة.)
وتعتبر خطوة العبادي الأولى مشجعة وباعثة للأمل. ولابد أن تتبعها خطوات أخرى ليشمل الإصلاح الهيئات المستقلة بالوكالة والمدراء العامين والقادة العسكريين وأصحاب الدرجات الخاصة والمستشارين وغيرهم من كبار المسؤولين في الدولة، ومحاسبة المفسدين بإحالتهم للقضاء للخروج من دائرة المحاصصات الحزبية الضيقة التي دمرت الوطن وأوصلت العملية السياسية إلى حالة العقم.
واليوم باتت الكرة في ملعب مجلس النواب بعد أن وضعه رئيس الوزراء أمام مسؤوليته التأريخية والوطنية وبعد أن سمع المواطن العراقي الكثير من إدعاءات معظم أعضاء هذا المجلس في الفضائيات بأنهم مع الإصلاح، وإنهم يمثلون ضمير الشعب وينطقون باسمه، وإنهم يدافعون عن حقوقه ومصالحه وطموحاته وآلامه وآماله المشروعة.ولابد لمن يقول هذا الكلام أن يقرنه بالعمل. فهل سيكون هؤلاء النواب شجعانا؟وهل سينتصرون على أنفسهم هذه المرة بتلبية طموحات الشعب العراقي وتطلعاته في الموافقة على التشكيلة الوزارية المقترحة دون أي تسويف أو لف ودوران ليفتحوا صفحة جديدة ناصعة مع الشعب قبل فوات الأوان بعد تلك الصفحات السوداء والأعوام الطويلة من الإخفاقات والصراعات والنكسات والإحباطات الكبيرة التي أوصلت الوطن إلى وضع لايحسده عليه أحد.؟
وهل سيرى العراقيون لأول مرة في حياتهم حكومة كفاءات نزيهة مخلصة تحظى بمقبوليته، تصل الليل بالنهار بكل جد وفعالية الرجال الشجعان الشرفاء لإنقاذ العراق من محنته بشن حملة لاهوادة فيها على الإرهاب والفساد، وإعادة الأموال المنهوبة والمهربة إلى خارج العراق؟ لكي يقف وطننا العزيزعلى قدميه، ويتعافى من جراحاته الكثيرة ،وتعود إليه عافيته ويسير في المسار الصحيح؟، ويشار إليه بالبنان من بين الأمم المتقدمة في كافة الميادين ويعود الأمل للشعب بعد هذه المعاناة الطويلة القاسية.؟
أسئلة تدور في ذهن كل مواطن حر شريف يهمه غستقرار العراق وتقدمه ، وحقن دماء الأبرياء الذين يسفك الإرهابيون القتلة دماءهم. أما إذا حدث العكس فإن النواب الرافضين للإصلاح يعلمون تماما إن الشعب الذي هو سيد السلطات ومصدرها لن يسكت بعد اليوم على هذا التداعي الخطير.
وسيكون هو الفيصل والحكم لمحاسبة كل من يجعل من نفسه عثرة في طريق الإصلاح،ولن يقبل بغير رحيل الحكومة ورئيسها،وحل مجلس النواب في المرحلة القادمة بعد أن فقد صبره وتحمل مالا تتحمله الجبال الرواسي من أوجاع وآلام وجراح. وقد مضى زمن المكر والخداع والتنظير العقيم، والجدل البيزنطي الذي أضاع الكثير من السنين في حياة العراقيين.وإن غدا لناظره قريب.
جعفر المهاجر.
https://telegram.me/buratha