المقالات

النفاق الأميركي.. طفح الكيل!

1972 22:56:13 2016-03-18

 

يوصف الرئيس أوباما من قِبل معارضيه الأميركيين بأنه "الرئيس الذي يتحدث كثيراً"، وهذا الوصف المشحون تهكماً قد رافق مسيرة أوباما منذ سنوات، وبالطبع لم يأتِ من فراغ؛ بل هو وصف حاز عليه بجدارة! فلم يحظَ الأميركيون حتى الآن برئيس مولع بالتحدث والتصريح أكثر منه!

لا ندري ما الذي سيصف الأميركيون به أوباما بعد أن اطّلعوا (المعارضون خصوصاً) على حديثه الأخير لمجلة "ذا اتلانتيك" الشهرية الأميركية، والذي ضجّ بزخم التذبذبات والتراجعات في مواقفه ومتبنياته، ومحاولاته التنصل عن تبعات قراراته ووعوده وشعاراته، سعياً للإفلات من تحمل المسؤولية عن مجمل الإحباطات والإنكفاءات في تحقيق وعوده الداخلية والخارجية؟!

شكّل ما نشرته "ذا اتلانتيك" في 11 آذار الجاري على موقعها الالكتروني كجزء من ملف يقع في 83 صفحة يتضمنه عدد المجلة لنيسان القادم تحت عنوان "عقيدة أوباما"، شكّل في رأي الكثير من المراقبين "جرد حساب" موّسع ومركّز لأهم وأخطر الملفات التي تعامل معها الرئيس أوباما طيلة فترة الولايتين التي تشارف على الانتهاء، نالت السياسة الخارجية القسط الأوفر من مجمل الصفحات، بواقع ان فترة الولايتين قد حفلت بأحداث عالمية كثيرة تركت آثارها الواضحة في الشأن الداخلي الأميركي، وفعلت ذلك دولياً، حيث عجّلت بإحراق مراحل في السياسة الدولية واستحداث أخرى، إضافة الى زعزعة الكثير من ثوابت و"عقائد" اللعبة الدولية وتوازناتها، كما أهالت التراب على حدود العديد من الدول والسيادات الهشّة "المعترف" بها في وثائق الأمم المتحدة على أقل تقدير، مثلما شهدت استفحال مخاطر الارهاب التكفيري، وترنّح حدود الاتحاد الأوربي مع تآكل أعمدة معاهدة "شينغن" بفعل موجات اللاجئين العابرة للقارات! ناهيك عن حروب الشرق الأوسط التي أعقبت "الربيع العربي" بطبعته المشؤومة، التي أورثت داعش والنصرة و"دولة الخلافة"، هذه الدويلة التي تنتظر "اعترافاً دولياً" لو سارت الأمور على وتيرتها الحالية! إضافة الى تهافت عملية "السلام" بين الإسرائيليين والفلسطينيين، والتي عزفت القوى الكبرى على أوتارها طويلاً، وبالذات الولايات المتحدة عبر الرئيس أوباما منذ أوائل أيام جلوسه في المكتب البيضاوي، اذ شهد تهشم هذه العملية بمطرقة تعنت زعماء تل أبيب، حيث أقسم "نتن ياهو" بأن يُلقّن أوباما درساً في "احترام" رغبات تل أبيب على طول الخط! ورافق ذلك إدمان نتن ياهو على إطلاق التهديدات بتوجيه ضربة استباقية ضد طهران بذريعة ان البرنامج النووي الإيراني يشكّل "تهديداً وجودياً" للدولة العبرية. وبدوره شغل البرنامج المذكور حيّزاً كبيراً في فترة الولايتين الرئاسيتين لأوباما، وأعتبر الأخير إيصال النزاع بشأن هذا البرنامج الى مرحلة "الاتفاق النووي" مع إيران بمثابة إحدى "إنجازاته"، لكنه أسفر أيضاً عن تقسيم الأميركيين وحلفاء أميركا معاً، فالناقمون عدّوا الاتفاق المذكور يوماً أسود، ولوّح الجمهوريون بإلغائه حال فوزهم بانتخابات الرئاسة الأميركية المقبلة!

* * *

لا بد من الإشارة الى ان ملف "عقيدة أوباما" الذي سبق ذكره، يتشكل من حديث أخير خصّ به الرئيس أوباما مجلة "ذا اتلانتيك" أجراه الإعلامي "جيفري غولدبرغ"، بالإضافة الى مقتطفات من مقابلات سابقة جرت في فترات مختلفة، كما ضمّ الملف أهم التصريحات لمستشاري الرئيس وأعضاء فريقه، وقد خلط البعض -عمداً أو جهلاً- ممن تناولوا هذا الملف فصوّروه على انه بكليته تصريحات جديدة لأوباما، فجاءت النتيجة بعيدة عن توخي الدقة والموضوعية التي ينبغي أن يتحلى بها الاعلام والإعلاميون، وينشدها القارئ والمتابع، خصوصاً فيما يتعلق بنقل التصريحات والأحاديث الهامة!

جاء ملف "عقيدة أوباما" ضاجّاً بالكثير من النقاط الملتهبة، بعضها لكونها جديدة وحساسة، والبعض الآخر لأنه يتضارب مع أو يبتعد عن آراء ومتبنيات سابقة للرئيس وفريقه، وجلّها ورد في عبارات مكثفة، وُضعت بمجملها على تماس مباشر مع أوضاع الشرق الأوسط المتدهورة، والتي أربكت المعادلة الدولية برمتها، مما جعل النظام العالمي الجديد الذي بشّرت به اميركا مطلع الألفية، وما سخرت لأجله من مفاعيل العولمة، يتقلقل فوق الكثير من علامات الاستفهام المدببة، التي زعزعت بوضوح مصداقية أحادية القطب الأميركي، وأجبرت أوباما على الانكفاء داخلياً بعد الانسحاب تكتيكياً من ملفات دولية عديدة، كانت قد تورطت فيها الولايات المتحدة من قبل أو دسّت أنفها، فتوصل الرئيس الأميركي وفق "عقيدته" بأن الانسحاب من تلك الملفات، او على الأقل تخفيض مستوى التفاعل، هو أكثر ضماناً للمصالح الأميركية!

تضمنت "عقيدة أوباما" عبر عشرات الصفحات في الملف الآنف، عدداً كبيراً من الملفات الدولية، وخصوصاً تلك التي يمكن اعتبارها جروحاً مفتوحة تؤرق الساسة الدوليين. فلقد تطرقت -مثلاً- الى الموضوع الأبرز، أي الارهاب والحرب التي تُشنّ ضده، واختلاف الرؤى حول سبل محاربته ومعالجة عواقب امتداداته، إضافة الى دور المجتمع الدولي في المساهمة بفاعلية أكبر! كما تم التطرق الى العقيدة الوهابية باعتبارها نواة للتطرف الأصولي- السلفي الذي يغذي الارهاب التكفيري اليوم. وشمل الحديث أيضا طبيعة العلاقة مع حلفاء أميركا الغربيين، ودورهم في مؤازرة "الجهود الأميركية لإرساء الديموقراطية" في العالم العربي، ورأي أوباما بقادة وزعماء أوربيين بما شكّل "صدمة" للبعض لحدّة الانتقادات الموجهة! وبسط النزاع السوري ظلاله على الملف الآنف، وما يجلبه من أرق للإدارة الأميركية، وكيف تحوّل الى مادة لاختلاف وجهات النظر الحادة مع الاتحاد الأوروبي ودولاً منها بعينها، ولماذا عزف الرئيس أوباما عن التدخل العسكري المباشر في سوريا لإسقاط الأسد قبل حوالي أكثر من عام. وبالطبع لم يغفل الملف الاتفاق النووي مع ايران ورؤية أوباما للحدث وتداعياته. كما تضمن الملف المذكور تعقيدات التعامل مع الدور الروسي الصاعد في السياسة الدولية، وبالذات في حيّز قضايا الشرق الأوسط. إضافة الى علاقة أميركا مع الحلفاء الإقليميين، كالسعودية وأنظمة الخليج، مروراً بتركيا أردوغان وملف اللاجئين الى أوروبا، بالإضافة الى هيمنة الصراعات الطائفية التي تهدد بتفتيت البلدان ورسم خرائط جديدة!

تقنياً، لا يمكن تسليط الضوء في هذه السطور على كل ما تضمنه ملف "عقيدة أوباما" المثبتة في عشرات الصفحات، والتي تحوز على أهمية كبيرة في مجملها، لكن هذا لا يمنع من تسليط الضوء على أهم تلك الموضوعات المطروحة، بما تجعلها على تماس مباشر مع أوضاعنا الملتهبة في الشرق الأوسط والعالم الاسلامي، مع الإقرار بأن كل مواضيع "عقيدة أوباما" كانت أسيرة هذين المحورين، حتى رأي أوباما برؤساء أوروبيين (ساركوزي مثالاً) وغير أوروبيين (أردوغان) كان له تماس مباشر مع المحورين الآنفين!

يدرك الأميركيون، وعلى رأسهم أوباما، بأن ظاهرة الارهاب التكفيري والتي تعود في نشأتها الى فكر التطرف الأصولي الذي أفرز "السلفية الجهادية" بنسختها المتوحشة، هي نتاج المؤسسة الوهابية، التي استثمرت أميركا حصّة كبيرة من نتاج هذه المؤسسة أواخر السبعينات وما بعدها، لدعم وإسناد "الجهاد الأفغاني" ضد الاحتلال السوفييتي، ولم يكن خافياً دور وكالة الـ"CIA" شبه العلني في دعم وتأهيل "المجاهدين" السلفيين بالتعاون مع الاستخبارات السعودية، وكان ما كان من رعرعة الارهاب التكفيري والتنظيمات التي شكّلت نواة "القاعدة" فيما بعد! والتي انشطرت بدورها أميبياً تباعاً، فلم يسلم العالم من شرورها، شرقاً وغرباً! ونظراً لحجم تورط الإدارة الأميركية (ومعها الحلفاء الإقليميين والغربيين) في هذا الجانب، وما جرّه اليوم من ويلات لم تقتصر على شعوب الشرق الأوسط والعالم الاسلامي؛ بل طالت عقر الغرب وعواصمه، يحاول أوباما بعبارات ملتوية التنصل من كل التبعات، ومن كل أشكال الدعم التي ساهمت باستفحال ظاهرة الارهاب التكفيري، بعدما وصلت ألسنة لهبه الى باريس وعواصم ومدن غربية أخرى! وبعدما يفاقم تهديد الارهاب اليوم خطر نشوب حرب عالمية ثالثة، يسعى أوباما جاهداً لغسل يد أميركا من آثار تورطها، وفي ظنه ان هذه المهمة لا تكلّف سوى بعض الحذلقة التي تتضمنها صياغات مدروسة لعباراته في ملف "عقيدته" التي ينشرها عدد "ذا اتلانتيك" الأخير! باختصار؛ أخفق أوباما بشدة في ليّ عنق الحقيقة فيما يخص التورط الآنف، مهما حاول -واهماً- أن يوحي بأن التطرف الأصولي الذي أنتج إرهاباً تكفيرياً هو (فقط) نتاج "السعودية وغيرها من الدول الخليجية التي ترسل الأموال وعدداً كبيراً من الأئمة والمدرّسين إلى إندونيسيا" حينما تحدث عن صعود التطرف في هذا البلد، مضيفاً بالقول: "موّلت السعودية عام 1990 المدارس الوهابية بشكل كبير، وأقامت دورات لتدريس الرؤية المتطرفة للإسلام، والمفضّلة لدى العائلة المالكة"! وعندما سأله محاوره؛ "أليس السعوديون أصدقاءكم؟"، أجابه أوباما بأن "الأمر معقّد"..!

ربما ان الأمر يبدو معقداً لمن انخدع بالتبريرات الأميركية في المواقف الحساسة، ولكن الأمر ليس كذلك لمن خبر النفاق الأميركي واكتوى بنيرانه! نعم "الأمر معقّد" كما صرّح أوباما، ولكنه ليس كما يذهب اليه، فالتعقيد المقصود يتبع وصفة معقدة هي الأخرى، اذ فيها يمكن جعل الضحية تهلل (طواعية أو قسراً) للجلاد باعتباره مخلصاً ومنقذاً من وحش الارهاب! ألم تفعل ذلك أغلب أنظمة الشرق الأوسط، حينما توسلت بأميركا لتخليصها من ذلك الوحش؟! ثم ما هذه المقاربة السقيمة من أوباما حينما يقفز الى إندونيسيا (ربما لأنه عاش 4 سنوات من طفولته فيها) ويعتبرها مثالاً على الويلات التي جلبها التطرف الوهابي على البشرية؟! بينما يتجاهل عامداً معامل التكفير والتطرف والتوحش السلفي التي تكرسها الحواضن الوهابية والمؤسسات الإعلامية التابعة لها في السعودية ودول الخليج، ومنها يتم توريد المقاتلين والأموال (وليس الأفكار المتطرفة فقط) الى كل مناطق النزاع التي ينشط فيها الارهاب!

هل يحتاج المرء هنا حقاً أن يسرد -وما أطول المقام- المحطات والملفات التي جاهرت فيها الإدارة الأميركية في التنسيق مع السعوديين، بشأن أحداث وملفات خطيرة طيلة العقود المنصرمة، رغم معرفة واشنطن بأن الرياض تدعم التطرف جهاراً؟ وليس آخر تلك الملفات التورط السعودي (العلني) في الحرب على اليمن، وقبلها تأجيج الصراع (علناً أيضاً) في سوريا، وبصورة غير مباشرة في العراق وليبيا، وما تساهم به الرياض في تأجيج الصراعات المذهبية تحت مرأى ومسمع أوباما وإدارته، وهذه الصراعات بالذات شكّلت وقوداً مفضلاً لمراحل الحروب التكفيرية الأخيرة (سقوط الموصل من ثماره المرة)، حيث استثمر الإرهابيون الطَرقَ على العامل المذهبي في للتغلغل أكثر في المواقع والساحات المستعرة، لتجنيد "المتطوعين والمقاتلين" من أكثر من 120 بلداً، بضمنها الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية!

بأي منطق وعقلية يمكننا نحن المكتوين بنيران الارهاب في الشرق الأوسط أن نصدق مزاعم الإدارة الأميركية بأنها براء ممّا حصل، وأن لا مصلحة أميركية من الأساس فيما جرى؟! ثم يأتي السيد أوباما في "عقيدته" المنشورة ليختزل تبريراته ويحصرها بهذا الشكل المفضوح قائلاً: "هناك دول فشلت في توفير الرخاء والفرص لشعوبها، هناك أيديولوجية عنيفة ومتطرفة أو أيديولوجيات تنشر من خلال وسائل التواصل الاجتماعي"! وواضح انه يذكر النتائج لا الأسباب، التي ستدين أميركا لو تم تناولها بتجرد وموضوعية! ولكنه مصرّ على اللّف والدوران وفق منهجية النأي عن تحمل المسؤولية، حيث يردف بالقول: "هناك دول بها القليل جداً من العادات المدنية، وبالتالي حين تبدأ الأنظمة الشمولية تتداعى فإن المبادئ المنظمة الوحيدة الموجودة تكون الطائفية"! ما أوضح "التلبيس" الذي تضمنته العبارة بشأن منشأ النزعات الطائفية ومن ينفخ فيها!

لم يؤشر أوباما بصراحة على مخاطر الدعم السعودي المباشر للإرهاب التكفيري، بالأموال والسلاح والمقاتلين، وليس بالفكر المتطرف فقط، وهنا مقتل "المصداقية" الأميركية في "محاربة الارهاب"، حينما تداري الإدارة الأميركية على التورط السعودي الكارثي في دعم الارهاب؛ بل وتحاول التغطية عليه ما أمكنها ذلك، رغم كل ما جرى ويجري! هناك من يرى بأن تبرّع أوباما بتصريحات تضع بعض اللوم على السعوديين في موضوع تغذية التطرف الديني والمذهبي، سببه وجود انخفاض حاد في منسوب الاهتمام بالشرق الأوسط وقضاياه لدى الإدارة الأميركية، بعد تدهور أسعار النفط والاتجاه للطاقة البديلة عالمياً، وفقدان المنطقة أهميتها الجيوستراتيجية بفعل عوامل عديدة، مما أفضى الى تسليمها لمصير مجهول، وبما يترك أثره في خلخلة التحالفات الأميركية مع أنظمة لطالما كانت محسوبة على مصالح "المجال الحيوي" الأميركي!

* * *

طفح ملف "عقيدة أوباما" بالغصص من خيبات الرهان على الحروب المستعرة في العراق وسوريا واليمن وليبيا وأفغانستان، ولم يتوانَ الرئيس الأميركي في إلقاء اللوم على الآخرين، وتحميل بعضهم مسؤولية تلك الخيبات والانسدادات في الحلول، أو بالأحرى تبعات النتائج العكسية التي أفرزتها التطورات بما لم يكن في حسبان المخططين الأميركيين، وتحديداً في الملف السوري، حيث أفصح أوباما (مدافعاً) عن قراره بعدم الموافقة على التدخل العسكري المباشر في سوريا لـ"حسم الصراع" وإسقاط الأسد، اذ رأى بأن "سوريا تشكل منحدراً مثلها مثل العراق"! ويبرر ذلك القرار بربط أي تدخل أميركي مباشر في سوريا بحدوث ثلاثة تهديدات فقط وهي؛ "تهديد القاعدة، والتهديد لوجود اسرائيل وأمنها، والسلاح النووي الإيراني الذي يشكل تهديدا على أمن اسرائيل"!

من الواضح ان الالتباس والتهرب قد لازَمَ اشتراط هذه "التهديدات" الثلاث للتدخل العسكري المباشر، فكل من واكب السياسة الأميركية منذ بواكير الأزمة السورية، يدرك جيداً ان مزاج الأميركيين كان حاداً ويتجه نحو فرضية التدخل المباشر في أية مرحلة من مراحل الأزمة، وبأن "الخيار على طاولة أوباما"! كما ان التهديدات الثلاث الآنفة كانت قائمة أساساً في افتراضها الأميركي، فهل نحن الآن أمام واقع بؤس اللف والدوران الذي يمارسه الرئيس أوباما في تبريره عدم تدخله العسكري المباشر في سوريا؟! أم انه يتحرج من قول كل الحقيقة، وفحواها العجز الأميركي في حسم النزاع وفق المخطط المرسوم له، بعد أن شهد النزاع انقلابات بفعل التدخل العسكري الروسي المباشر، وتلاشي تأثير "قوى المعارضة المعتدلة" التي راهنت عليها أميركا منذ اندلاع الأزمة، فتم إدخال المخطط الأميركي الى ردهة العناية المشددة؟!

لا ريب ان هذا الانكفاء الأميركي في الملف السوري قد أصاب الحلفاء الخليجيين وعلى رأسهم السعودية بإحباط مروّع، وكان بمثابة تبديداً لكل أحلامهم في الإطاحة بالرئيس الأسد، وإمكانية إيصال الرياض عملائها الى سدة الحكم في سوريا، وفق صفقة معقدة مع الأميركيين! لكن إدارة أوباما كانت الأسرع في إثبات ان مصالحها تتقدم كل الاعتبارات والأحلاف والاتفاقات في الغرف المغلقة، وان الرئيس الأميركي كان واضحاً في ذلك عندما ألمح في حديثه الأخير لمجلة "ذا اتلانتيك" الى "إن هناك حدوداً للمدى الذي يمكن أن تذهب إليه الولايات المتحدة لحماية المنطقة"!

مقدار الغضب السعودي المتزايد تمت ترجمته سريعاً بعد نشر ملف "عقيدة أوباما" الآنف، وتعرّضه للسعوديين والخليجيين، واتهامهم بإذكاء الصراعات الطائفية والإقليمية، أو التقصير في حلّها. فلقد نشر تركي الفيصل (مدير الاستخبارات السعودية قرابة ربع قرن، وسفير سابق لدى واشنطن) ردّاً على شكل مقال بعنوان "لا سعودية تشهرها بوجه أوباما" بالإنجليزية نشرته "أراب نيوز" السعودية، اكتظ المقال بالردود المتشنجة، وذكّر أوباما بـ"فضل" السعوديين على أميركا في إدارة ملفات المنطقة، ومنها "الحرب على الارهاب"، كما غصّت سطور الفيصل بالمرارة من "نكران الجميل" الأميركي الذي بدأ يجاهر به الرئيس أوباما شخصياً، ويلخص الشعور بالمرارة السعودية ما قاله الفيصل حرفياً: "إن القيادة الأمريكية انحرفت عن صداقة استمرت 80 عاما بين البلدين"!

ذروة النفاق الأميركي أن يبادر أوباما بشأن أخطر أزمات المنطقة المشتعلة بوقود أميركي، وهي الأزمة السورية، فيلقي باللوم بخصوص توسع مخاطرها وعدم القدرة على حسمها، يلقيه على الحلفاء الذين لم يشذّوا يوماً عن المخطط الأميركي، كالسعودية وباقي الخليجيين، علماً بأنه لم يعد خافياً بأن أحد مخرجات الأزمة السورية كان استفحال دور الارهاب التكفيري في العراق بعد سقوط الموصل، وانهيار الحدود بين العراق وسوريا.

من السذاجة بمكان أن يتنصل الرئيس أوباما بصراحة عن المسؤولية الأميركية في إيصال المنطقة (بحروبها وأزماتها) الى هذه الحالة الحرجة من التأزم والغليان، ويختزل كل ذلك في إرجاعه الى أن "المنافسة بين السعوديين والإيرانيين ساعدت في إذكاء الحروب بالوكالة والفوضى في سوريا والعراق واليمن" كما صرّح! ويعتبر الحل وفقاً لذلك السياق بأنه "يتطلب منا أن نقول لأصدقائنا وكذلك للإيرانيين إنهم بحاجة للتوصل إلى طريقة فعالة للتعايش معا وتحقيق نوع من السلام البارد"! حقّاً يحار المرء لماذا اختار أوباما عبارة "السلام البارد" اذا كان افتراضه وتفاؤله منصب في إيجاد الحلول بهذه البساطة والمجانية؟!

يعلم السيد أوباما جيداً نوايا السعوديين التي استثمرها كثيراً، لتوجيهها ضد إيران أو غيرها طيلة العقود المنصرمة، فهل غسل حقاً يديه من "الشراكة الستراتيجية" مع السعوديين بعد إبرام الاتفاق النووي مع إيران؟! أغلب الدلائل تشير بأن هذا المآل هو ما يفزع السعوديين والخليجيين. وفي عودة الى مقال تركي الفيصل، نراه يقرأ السبب (على طريقته) في بوادر تخلي الإدارة الأميركية عن صداقة حلفائها في المنطقة، لأنها "استبدلت بها قيادة إيرانية لا تزال تصف أمريكا بـ[الشيطان الأكبر]"!

* * *

تجنّب أوباما في حديثه الآنف لمجلة "ذا اتلانتيك" التطرق للملف العراقي، وهذا غير مستغرب في هذه الأوقات العصيبة التي يزدحم بها رأس الرئيس الأميركي بالكثير ممّا يثير الصداع، وفي مقدمته بالطبع تعقيدات الراهن العراقي، حيث الحرب ضد داعش تمر في مراحلها الحساسة مع اقتراب معركة الحسم في الموصل، واقتران الأوضاع مع شبح التقسيم الذي تلوّح به حكومة الإقليم عبر تصريحات كبار المسؤولين فيها وعلى رأسهم مسعود البرزاني، ودعوات إنشاء "الإقليم السنّي" الذي تدعو له أطراف سنّية مدعومة سعودياً وخليجياً وتركياً، كجزء من تكالب هذه الدول لإرساء مصالحها غير المشروعة وأطماعها في العراق، متزامنة مع ضبابية الموقف الأميركي بما تزيد في تعقيد المشهد، كما يساهم انهيار أسعار النفط بإثقال كاهل الحكومة العراقية المعنية بتوفير نفقات الحرب وإدارة اقتصاد البلاد، مع الأخذ في الاعتبار ان السعودية (حليفة أميركا) هي من خططت ودعمت انهيار الأسعار لمآرب عديدة، كان منها ثني العراق عن تحقيق الانتصار الكامل ضد الارهاب، بواقع الاعتماد الكلي لاقتصاده على الصادرات النفطية، وبالتالي تتعثر برامج تمويل نفقات الحرب القائمة. كما ان هناك التلكؤ الأميركي في إكمال توريد الأسلحة للعراق، والتي تعاقد عليها كصفقات مع الطرف الأميركي مسبقاً وسدّد أثمانها، لكن المماطلة الأميركية مع العراقيين (وهم في أمسّ الحاجة لتلك الأسلحة) أفصحت عمّا يضمره "الشريك الاستراتيجي" الأميركي للعراق!

كان على الرئيس الأميركي لو تحدث عن العراق في المقابلة الآنفة أن يدلف الى كل مواضيع الشأن العراقي المذكورة آنفاً، باعتبارها تخصّ في جانب منها الموقف الأميركي وتستدعي توضيحه، لكنه آثر (تجاهلها) لأن أغلبها تشكّل في انسداداتها بمثابة كابوس، ولن تكون حلولها مطروحة على صفحات "ذا اتلانتيك"، التي طفحت في عددها الأخير بالنفاق الأميركي على لسان أوباما! 

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك