منذ خمس سنوات، وعلى مدى خمسة ايام في الاسبوع، اقوم بكتابة افتتاحية قصيرة ومركزة تتناول شأنا من شؤون الساحة.. كتبت وانا خارج المسؤولية، وكتبت واكتب وانا في المسؤولية.... وتلقيت واتلقى الكثير الكثير من الردود بين منتقد ومؤيد ومعلق، وصولاً الى السباب والشتائم، والتي تأتي عموماً من جهال لا وجه ولا اسم لهم، هم اساساً اعداء انفسهم: فـ"الانسان عدو ما يجهل".
اثار البعض اشكالية لها مداليلها فيقول.. اذا كان المسؤول التنفيذي ينتقذ وينظّر، فمن سيعمل وينفذ اذن؟ وهذا سؤال وجيه، يعكس جزءاً كبيراً من فهمنا الخاطىء للواقع. فخلاف ما يعتقده البعض من اننا نعيش تخمة تنظير، نرى اننا نعيش الكثير من حشو الكلام، والركض المتعب المتواصل في حلقة مفرغة.. وقليل جداً من التنظير بشرطه وشروطه، ومن الاعمال المنتجة الناجحة.. فالتنظير هو طرح المشكلة كما هي عليه، خارج اي الاسقاطات الذاتية.. وبناء رؤية او نظرة تقدم الحلول والمواقف الصحيحة. فلطالما قيل.. ان الاسئلة الصحيحة، هي نصف الحل.
يعتقد البعض ان المسؤول واجبه العمل وليس التنظير. وهذا غير دقيق.. فالعمل والتنظير متلازمان في الظروف الطبيعية، فما بالك بظروف استثنائية تراكمت فيها المفاهيم والممارسات السلبية لفترات طويلة. فما يؤسف له، ان مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية ومراكز القرار لم ترتق بعد لرسم سياسات متكاملة، بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل هي تصدر قرارات، وتتخذ مواقف، في جزء كبير منها ردود افعال، واعادة انتاج الجمود والسلبيات، اكثر مما هي خطط مدروسة وعارفة بكل شروط التقدم والنجاح.
فلم نطور تقاليد عمل كاملة، كما اننا لم نبن مؤسسات جدية ومهنية كفاية لرسم سياسات، وتطبيق خطط تتسم بالنضج والثبات والاستمرارية والمراجعة. فالمطالبات ما زالت تتكلم اكثر عن اشخاص مستقلين او تكنوقراط او كفوءين او نزيهين، اكثر من بناء مؤسسات كفوءة نزيهة راسخة، وكأن الاشخاص –مهما كانت صفاتهم- قادرين على الاداء الصحيح في ظل غياب المؤسساتية المطلوبة، والتي سيبقى غيابها –الجزئي او الكلي حسب الحالات- سر الفشل والضعف الذي عانته وتعانيه بلداننا في الكثير من المساحات والاعمال. صحيح ان المسؤول واجبه بناء مثل هذه المؤسسات، لكنه يعجز عن القيام بذلك دون ولادة عقل جمعي في قلب مراكز الحل والعقد، عازم على بناء هذه المؤسسات.. وواجب المسؤول السعي لتوليد ذلك، ولسد اكبر مساحة من الفراغ النظري والمفاهيمي الذي بدونه لن تبنى لا المؤسسات ولا الاعمال الناجحة.
هناك صراع قد لا يراه البعض يجري بين المسؤول والرأي العام ومراكز القرار التشريعية والتنفيذية والقانونية والقضائية والرقابية.. وكذلك بين المسؤول ومحيطه الذي يعمل فيه، وما يُقترح من افكار للانجاز والتجديد والتي قد تعارضها بعض العقول التي تقولبت على الافكار التي برهنت التجربة فشلها، او التي لا تمتلك القدرة لاستيعاب الافكار الناجحة. ففي احيان كثيرة لا تنفع الشروحات والمذكرات الداخلية فيلجأ المسؤول للشرح علناً لاحداث الضغط اللازم لترويج الافكار والسياسات التي يؤمن بها.. فان كانت خاطئة فقد يصوبها النقد والبرهان المضاد.. وان كانت ناقصة فقد تكملها الشروحات والمساهمات.. وان كانت صحيحة فستوفر قناعات وبيئة تحاصر الافكار الجامدة، وتتجاوز الروتين، وتتسلل الى الوعي والعقول، لتساهم في بناء العقل المؤسساتي والسياسات الناجحة، او بعضها.. يساعدها في ذلك الازمات المتكررة والظروف الصعبة، التي تحطم اي عناد يقوم على الاخطاء واعادة انتاج السياسات الفاشلة.
ففي عراق اليوم لا مكان "لقائد الضرورة" الذي يستطيع تنفيذ افكاره ورغباته، فتطاوعه الدوائر، وتفتح امامه كل الابواب.. على العكس فان ازاحة الدكتاتورية وضعتنا امام مهمة قاسية.. تتمثل ببناء العقل والممارسة المؤسساتية، القادر على صناعة وانتاج السياسات الصحيحة المدروسة التي تساند المسؤول وتوفر له عوامل النجاح.. فالمسؤولون يأتون ويذهبون.. اما المؤسسات وعملها فباقية، وتتطور باستمرار، لتتطور معها البلاد.
https://telegram.me/buratha