لم تحقق الصين تقدمها الذي اذهل العالم بدون تضحيات كبيرة واثمان غالية.. لن نتكلم عن التضحيات البشرية والمادية التي تكبدتها في تاريخها الطويل.. بل نشير لواحدة من اخطر التهديدات والمخاطر التي تواجهها اليوم، ونقصد بها التلوث الخطير للهواء بسبب الصناعة المكثفة والاستهلاك المتعاظم للطاقة.. فعندما يصبح الهواء سماً قاتلاً، فان بقية المشاكل ستبدو هينة وبسيطة. وعند زيارتنا لبكين الاسبوع الماضي لاحظنا هول التلوث..
فالهواء اصعب على الانسان من الماء نفسه.. فالماء يمكن جلبه بالقناني او تنقيته عبر اجهزة بيتية خاصة.. اما الهواء فما العمل، وهو يدخل من الابواب والشبابيك الاكثر احكاماً، بحيث وصل الامر -كما سمعت في بكين- ان تجاراً يستوردون هواء من بلدان اخرى، معبئة بقناني خاصة كافية لتوفير هواء نظيف للشقق السكنية، قيل انها تكفي ليوم واحد، يستعيضون، او يكملون بها اجهزة التنقية الكهربائية التي يستخدمها البعض في بيوته، والتي تسحب الهواء ليمرر عبر شبكة الواح فيها فتحات دقيقة للغاية تعلق بها الجسيمات الدقيقة، ولتعيد ضخه من جديد، وهو اكثر نقاءاً من قبل.
لقد كان التلوث في ايام زيارتنا لبكين في اعلى حالاته.. اذ اصدرت الحكومة انذاراً من المستوى الرابع ذي اللون الاحمر، والانذار اربعة مستويات، وهذه من المرات النادرة بل الاولى التي يصدر فيها هذا المستوى من الانذار.. وهو ما يعني اغلاق المدارس وحظر سير نصف المركبات في الشوارع، واغلاق مصانع، الخ.. فلقد بلغ مستوى الجسيمات الدقيقة في الهواء من 2.5 ميكروغرام، وهو اصغر واخطر جسيمات التلوث، الى مستوى 303 ميكروغرام في المتر المكعب، اي اكبر بـ20 مرة من المعدلات العالمية. بل وصلت حسب بعض ساعات النهار وبعض القراءات الى 500 ميكروغرام في المتر المكعب. فاينما تنقلنا كان مضيفونا يفتحون التطبيقات الخاصة في هواتفهم والمتخصصة باعلان معدلات التلوث حسب ساعات اليوم والمناطق.
لقد بات منظراً مألوفاً ارتداء كثير من سكان المدينة اقنعة تنقية الهواء.. كما بات مألوفاً ان توفر الفنادق في غرفها اقنعة مضادة للتلوث.. وتشير الدراسات ان 1.4 مليون يموتون مبكراً بسبب تلوث الهواء.. وتصل حالات الوفاة الى 4 الاف حالة يومياً حسب الـ بي بي سي.
هذا وتسعى السلطات الصينية التخفيف من هذه الحالة التي تطعن كثيراً بنموذجها التنموي.. وتقول انها ستصل خلال السنوات الخمس القادمة لتخفيض التلوث الى اقل من 50% من مستواه الحالي.. فمعدلات النمو الصيني اعتمدت نموذج المشاريع الضخمة والمدن العملاقة والكلف الرخيصة.. لهذا استطاعت غزو الاسواق ببضائع لا يستطيع الاخرون الصمود بوجهها.. لذلك امام الصين معضلة في كيفية تخفيض معدلات التلوث القاتل من جهة، وكيفية الحفاظ على معدلات نموها القادرة على خدمة شعب يشكل 20% تقريباً من سكان الكرة الارضية.
ولعل توقيعها مذكرة تفاهم مع العراق، والذي ستوقعه مع دول اخرى، بخصوص "التطلعات والاعمال حول دفع البناء المشترك للحزام الاقتصادي لطريق الحرير وطريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين" هو احدى المعالجات لتوسيع نشاطاتها الصناعية والاقتصادية على مدى القارة الاسيوية بمجملها وعدم حصرها في الصين فقط. وهو امر سينفع بلدان كثيرة ومنها العراق مع حرص كبير ان تكون المشاريع الجديدة صديقة للبيئة، وتحمل مصالح متبادلة لكل الاطراف.. وان يتم تجاوز ما قامت به الدول الصناعية منذ النصف الثاني للقرن الماضي بنقل الكثير من صناعاتها الملوثة للبيئة الى دول العالم الثالث والتي اصبحت مصدر ابتلاءات كبيرة لها.
عادل عبد المهدي
https://telegram.me/buratha