جرت مؤخراً في فرنسا انتخابات مجالس "المناطق". وهي على مرحلتين.. واذا استثنينا القوى الصغيرة، فيمكننا تقسيم التيارات الى "يسار" و"يمين".. و"الجبهة الوطنية" التي تعتبر قوة متطرفة لافكارها ضد المهاجرين وفي قضايا اخرى. في الجولة الاولى، فازت الجبهة الوطنية باعلى نسبة من الاصوات، وبـ7 "مناطق" من مجموع "المناطق" الـ13. لكنها لم تحصل على 50% من اصوات الناخبين التي كانت ستؤهلها لربع مقاعد تلك المحافظات من الجولة الاولى. اما في الجولة الثانية، اي بعد اسبوع، ففاز "اليمين" بـ7 "مناطق"، و"اليسار" بـ5، فكانت محصلة الانتخابات عدم فوز "الجبهة الوطنية" باية "منطقة"، رغم رصيدها الكبير في عدد الاصوات. فهي بسبب انحرافها عن "العقد" تواجه دائماً بنظم انتخابية وائتلافات وتسويات وتنازلات متبادلة تضع الحواجز امام صعودها.
وهذا الامر صحيح على صعيد مناطقي وعلى صعيد "الجمعية الوطنية".. فرغم حصول "الجبهة الوطنية" عادة على نسب عالية من الاصوات تضعها احياناً في مقدمة الاحزاب، لكنها لا تمتلك اكثر من 3 مقاعد من مجموع 577 مقعداً. بل حصل في الدورة الثانية للرئيس الاسبق "شيراك" ان جاءت نتائج المرحلة الاولى بتقدم كبير "للجبهة الوطنية".. مما ارعب "اليمين" و"اليسار" على حد سواء، فاضطر "اليسار" لمنح الرئيس "شيراك"، خصمهم التاريخي اصواتهم، فحُجز الطريق امام "لوبين" رئيس حزب "الجبهة الوطنية" الى رئاسة الجمهورية، وبالفعل فاز "شيراك" بنسبة 82% من الاصوات، في انتخابات الجولة الثانية التي اتسمت بمشاركة عالية جداً.. بينما كان رصيده في الجولة الاولى 19.9%.
ما يجري في فرنسا لا يختلف كثيراً عما يجري في الولايات المتحدة بين "الديمقراطيين" و"الجمهوريين" او بين "العمال" و"المحافظين" في بريطانيا.. او بين "المحافظين" والاصلاحيين" في ايران.. او بين "العدالة" و"الوطني" في تركيا. فالامة –دون تقويم التوجهات- ممسوكة بعقد معلن او مضمر، يعكس ما تمتلكه توازنات وتيارات عميقة وقوية ومنتشرة في الامة، من قاعدة وادوات، ضامنة لمصالحها، فعلاً وليس لفظاً. فيصبح لديها ولدى قطاعات الاغلبية الواسعة للرأي العام سمة تاريخية واجتماعية، معنوية ومادية، تسمح لها بمقاومة اي تمرد عليها. فالتيارات داخل العقد، ستضع خلافاتها جانباً لمنع صعود اي تيار جديد تعتبره طارئاً وغير معبر عن روح العقد، او روح الامة، وهو ما سيبقى فاعلاً ومنظماً للسلوك السياسي لعقود، بل احياناً لقرون. فالديمقراطية ليست مجرد عدد اصوات، بل هي عقد او دستور تتشرب باسسه ومبانيه واهدافه الجماهير او الامة باغلبيتها الواسعة، الصامتة والناطقة..
الديمقراطية مؤسسات وتربية ومراكز قوى، ظاهرة وباطنة، وتشخيص مصالح يجمع اهل الحل والعقد في الامة لمرحلة تاريخية، وليس مجرد اوراق في صناديق. وكمثال، بقي صعود التيار الاسلامي في تركيا محجوزاً لعقود طويلة.. فكلما اسس حزباً قام القضاء بحله.. فلم يلجأ للطريق العنفي او غير القانوني، وحافظ على كامل التراث والتقاليد "الاتاتوركية"، وبافضل العلاقات بالعالم الغربي، واضاف اليها علاقات بالعالم الشرقي، وقبِل بالدستور بكل املاءاته، وبهذا استطاع الفوز بثالث انتخابات متتالية. بل يتهيء اليوم لتغيير الدستور ليعزز مكانته.. وهنا سيحكم التاريخ ان كان سيراعي التوازنات العميقة الماسكة بتلابيب الامة التركية، ام سيرتكب خطأ "الاخوان" في مصر.
ما زالت الديمقراطية في العراق هشة.. ولم تؤسس تقاليدها العميقة بعد.. ولم تتكون احزاب وقوى سياسية ورأي عام وقوى ضغط وتوازنات تتمحور حول تشخيص شخصية البلاد وخصائصها وطبيعتها، والوعي والالتزام الجاد بمصالحها العليا بكل ابعادها وليس ببعد واحد منها. اذ ما زالت الديمقراطية في فهم كثيرين، مجرد السيطرة على المواقع، واوراق في صناديق، وصراخ وضجيج واتهامات للبقاء، عبر تسقيط الاخر.
عادل عبد المهدي
https://telegram.me/buratha