يعتبر الحوار أقدم وسيلة أوجدها الإنسان, لإيجاد نوع من انواع التبادل المعرفي بينه وبين بقية البشر, بل ويعتبر صلة الوصل الأولى والأقوى , المعتمدة في تطور الجنس البشري, وتفوقه على غيره من المخلوقات.
إن الحوار الهادف فعلاً هو الحوار الجيد والعلمي والموضوعي, والقائم على أسس أخلاقية جيدة, والذي يفرز بطريقة غير مباشرة: المبادئ والعادات والسلوكيات الصحيحة والرائدة؛ ومع الأسف فإن هذا النمط من الحوار غير موجود في أدبيات السلوك العراقي, فقد تغلفت أدمغة أغلب نخبه ومثقفيه- فضلا عن عوامه- بدوغمائيات الجهل, والكسل في طلب الحقيقة, فتتحول كل محاورة فيه بين طرفين- بصرف النظر عن صحة ادعاء طرف, أو خطأ الطرف الآخر- إلى معركة عقائدية دينية جهادية, يستشهد أحدهما في سبيل إثبات وجهة نظره التي لا يحيد عنها أبدا! .
لقد أصبح معيار الحوار في بلدنا, قائما على فلسفة اللاوعي الجمعي, وما تجمعت فيه من قاذورات المواقف التسلطية, والتربية الاجتماعية العشائرية القائمة على عصبية, مملوءة بعناصر السوء الخُلُقي: (تَكَبُر, عُجُب, نِفاق, إظهار العِلمية والتَمَكُّن, عدم الاعتراف بالخطأ, عدم قبول الرأي الآخر, محاولة صنع هالة من -الهيبة- الاجتماعية الكاذبة! الاهتمام وبالدرجة الأولى بالموقف من المجتمع, لا الاهتمام بالوصول إلى الحقيقة أو الصواب( , مما ولد منظومة وعي وفكر وحوار, يتجه بشدة نحو انفعالات يحاول أصحابها, إلباسها أثواب الصحة واليقينية, لا يمكن زعزعتها, كل ذلك غالبا يكون ممزوجا بجهل منطقي, وجهل علمي وجهل منهجي مطبق , مضاف له كسل في طلب المعرفة, وكسل في استخدام الاستقصاء المعرفي.
النتيجة النهائية كونت لدينا مركب اجتماعي (أحمق- يعتقد نفسه من أذكى المجتمعات), تعاضدت أسباب كثيرة- ذكرنا جزءا منها- على خلق حالة من الجهل المركب المدقع فيه, توزعت بين بعض فئات المجتمع (من النخب, والمثقفين, وعوام الناس- ومع الأسف اكتشفت مؤخرا, أنه بدأ يغزو العديد من طلبة العلم في الحوزة العلمية)! وعلى أشكال ومراتب متنوعة, بحسب مستويات تحقق الوعي المنهجي بالمشاكل المطروحة.
نحن بحاجة ماسة في العراق, إلى إيجاد بل وتربية الكثير من النماذج البشرية, المتطبعة والمؤمنة بشكل كامل بأسلوب التحصيل المعرفي الصحيح, وعدم الاعتماد مطلقا على آليات التعليم المجتمعية العراقية (البائسة) , والناتجة عن كثرة (متخمة) في عملية التواصل الاجتماعي بين أفراد المجتمع, والتي عادة تكون مصحوبة بابتعاد عجيب عن حالة الفردية (ولو الجزئية), أو الانعزالية التأملية في طلب المعرفة أو الاستقصاء الصحيح.
إذا أردنا عمل مقارنة بسيطة بين آليات التفكير لدى الشعوب الغربية, أو على العموم الغير عربية والغير عراقية, سنجد أنها قد نجحت في وضع آليات تفكير وتعاطي في سلوكياتها اليومية, حققت لها الكثير من النجاح في تجاوز الكثير من مشاكلها الخاصة, ببناء دولة قوية تحترم الإنسان وتحترم القانون؛ فعندما تحاور وتناقش أحد الغربيين- مثلا- تجده كله آذان صاغية وعقل منفتح برغماتي نفعي, يحاول قدر المستطاع الاستفادة مما لديك, سواء على صعيد النقد أو التأييد, بعكس ما هو موجود لدينا, فعندما تحاور أحدهم (ومع الأسف وجدته عند الكثير) تحس نفسك وكأنك تحاور حمارا أهوج!
ما دام سوء التفكير, وخراب أدواته ومعطياته العقلانية, هي المسيطرة في تقييم المواقف, مع إبتعاد اغلب المثقفين والنخب عن أية منهجية علمية استقصائية, في تحصيل المعارف والحقائق الخاصة بكل حدث, علمي, أو حياتي يومي, فإن النتيجة ستكون دوما هي خراب مستمر, ودماء تسيل, وتسلط أبدي للظالمين وللسراق!
*ماجستير فكر سياسي أمريكي معاصر- باحث مهتم بالآديولوجيات السياسية المعاصرة.
https://telegram.me/buratha