احدى الحلول التي اتبعتها الكثير من دول العالم الثالث لتطوير اقتصادياتها وبث الحيوية فيها هي سياسة "بدائل الاستيراد".. وتقوم هذه السياسة على مبدأ انه بدل استيراد البضاعة من الخارج فانه من الافضل فتح خط انتاج لها من قبل الشركة المنتجة في داخل الوطن. ولاشك هناك بعض الانتقادات لهذه السياسة، اذ يقول البعض ان هذه السياسة ستبقي البلدان خاضعة للدول المصنعة التي يبقي "سر المهنة" Know how بيدها. وهذا صحيح ان بقيت المعرفة والواقع الاقتصادي واقعاً متلقياً ولا ينتقل الى واقع مبادر يستطيع الاستفادة من خبرات الاخرين لتطوير خبراته، وليس الاستمرار في التبعية لها او الاعتماد المطلق عليها.
استطاعت الكثير من الدول الاسيوية وفي امريكا اللاتينية استثمار هذه السياسة. فهذه ايران التي انشأت خطوط انتاج لكبريات شركات السيارات مثلاً قبل حوالي نصف قرن، اصبحت اليوم دولة تسد حاجتها الداخلية بل تقوم بتصدير انتاجها الخاص. فحسب هذا النموذج تبني معامل تجميع وتصنيع في البلد المستورد، وتقوم الشركات الام بتصدير اجزاء مهمة من السيارة للبلد الذي يقوم بتصنيع اجزاء اخرى من السيارة، ويقوم بالتالي بتجميعها حسب الاتفاق وحسب مواصفات الشركة الام. فوائد هذه العملية للشركات الام انها تضمن لنفسها اسواقاً متزايدة امام منافسيها، وفوائدها بالنسبة للبلد المستورد انه يوفر على نفسه مبالغ استيراد عظيمة، ويطور من صناعته واسواقه، ويرفع من مستوى خبراته وتكنولوجياته، ويفتح الباب لمجالات واسعة من العمالة.
في العراق، نواجه اليوم ازمة مالية بسبب تراجع اسعار النفط، وضعف امكانية الاستثمار وبناء مشاريع جديدة.. وقد تكون هذه فرصة مناسبة للاستفادة من هذه السياسة، بل قد تكون فرصة لتصحيح مسارات اقتصادنا. فالعراق سوق مهم تستهدفه الشركات الكبرى، والبلاد تعتمد على الاستيرادات بشكل شبه كامل وفي شتى الحقول.. وان ما يتوفر من اموال في الموازنة يكفي بالكاد لسد اهم الحاجات التشغيلية.. من هنا يأتي أهمية اعتماد سياسة "بدائل الاستيراد"، كاحدى السياسات (بجانب سياسات اخرى)، لمواجهة الازمة بل لتحريك واطلاق عملية التنمية، واستيعاب اعداد كبيرة من العمالة التي لا تجد اليوم غير الوظيفة مجالاً لها.
في عام 1978 زرت الصين التي كانت وقتها بلداً شبه مغلق معتبرة نفسها بلداً فقيراً "عالم ثالثياً". زرت احدى المجمعات الصناعية الصغيرة الحجم. يضم المجمع مرجلاً لصهر الحديد من المخلفات، وبجانبه ورشة لصنع القوالب وقطع الغيار المختلفة (تورنجي).. وبجانب ذلك كانت هناك ورش عمل لتصنيع بعض الصناعات الصغيرة. زرت ورشة مكائن الاوفست الطباعية الصغيرة الحجم. تتكون الورشة من مجموعة مشاغل او "كراجات" مفتوحة كلها على فناء الورشة.. وفي كل مشغل خصص اوفست صغير الحجم لطباعة "اي ثري" A3 او "اي فور" A4، لاحدى الماركات المشهورة كـ"الهايدلبرك الالمانية، او الـ"أي بي ديك" الامريكية، وغيرهما من ماركات عالمية.
وحول كل ماكنة "اوفست"، كان يقف المهندسون والعمال يطبعون ويطبعون ويسجلون الملاحظات من فوائد وعيوب الماكنة التي يعملون عليها. وفي صدر الورشة كان هناك مشغل خاص مهمته تصميم ماكنة صينية جديدة.. وكان المهندسون والعمال من كل المشاغل يجتمعون في كل يوم لتقديم خلاصة تجاربهم.. يستمع اليها مهندسو ورشة "الاوفست" تحت التصميم، الذي عند انجازه سيطرح في الاسواق، بعد الاستفادة من كل التجارب العالمية.
وعليه نقول، لنجعل الازمة المالية سبيلاً لاصلاح اوضاعنا لا لليأس والبحث عن حلول ترقيعية استهلاكية لا تبني قاعدة للنماء والتطور.. فعدم التقدم لا يعني التراجع فقط، بل ايضاً ظهور كل افات الفقر والفساد والجهل والامراض الاجتماعية وشتى اشكال الصراع والتبعية.
عادل عبد المهدي
https://telegram.me/buratha