الجموعُ منحدرةٌ من كلّ أوبٍ وصوبٍ، حاشدةٌ حاشكةٌ، الساحاتُ غصصٌ.. في أززٍ ولززٍ، وكأنْ جَشأت البلادُ بأهلها ترى الناسَ ما قالت العرب: كأنّهم الأصلُ وعلى رؤوسهم البصلُ.
ونجحت الجماهير في مظاهراتها، محتجّةً باتّجاه فرض إرادتها العليا.. مطالبةً الحكومة بمحاسبة المفسدين، ومسرعةً تحرّكت عجلة الإصلاح الحكومية مستجيبة لضغط الجماهير النافذ، فعلى مستوى مجلس رئاسة الوزراء تمّ: تقليص الوزارات عن طريق دمج بعضها مع غيرها، وإلغاء البعض الآخر. ومن جهتها هبّت بعض الوزارات ملبّية نداء المطاليب مرشّقة هيكلها الحكومي وبدنها الإداريّ فيما تضطمّ عليه من دوائر وشركات قامت هي الأخرى بتعزيز هتاف الإصلاح مغيّرة ومبدّلة العديد من مسؤولي شعبها وأقسامها.. ولاريب المواطن العادي والمغلوب على أمره من بسطاء الموظفين يرحّب بكلّ تلك التغييرات، بل وراغباً بالمزيد منها.
وبغض النظر عن الإصلاح كيف يكون في شكل آليّته: نازلاً من رأس الهرم إلى قاعدته أم صاعداً من قاعدة الهرم إلى رأسه، فإنّه يبقى شأن يهمّ المجتمع بأسره، فماهيّة الإصلاح لاتعدو أن يَدلو كلّ مواطن بدلوه في مصبٍّ للتجمّع عام تجري فيه مصلحة البلد، ومن مجموع ما يُدلى سيخطو البلد في نهاية المطاف إلى الأمام خطواته المناسبة، لذا وما تعنيه عملية الإصلاح من علاج للفساد، يلزم الجميع المساهمة في عزل المفسدين، بالإشارة إليهم وفضحهم، وصولاً إلى وضعهم في قفص الإتّهام.. ذلك مكانهم المناسب، وتمهيداً لمحاكمتهم.
على أنّ هناك غشاءً فارقاً يجب أن يُلحظ مابين فضح المفسدين من أجل إصلاح المجتمع وبين التشهير بالأشخاص لامن أجل شيئ سوى الإساءة إليهم وإسقاطهم إجتماعيّاً بأعين الآخرين بإدّعات كاذبة يُرادُ بها الإنتقام منهم، مستثمرين ما متاح للجميع من صحائف البثّ الإلكتروني ووسائل الإتّصال الجماهيري، التي لايمنع أحد من ممارستها سوى الضمير الحيّ للشخص المتعاطي بها ورقيبه الداخلي، وطالما أنّ الكلمات البذيئة غير ممنوعة عن أحد ومبتذلة في قاموس المجتمع لكلّ من أراد، وهناك من يتحمّس لهذا النوع من الإسفاف في الأخلاقيات، وكما قالت العرب في أمثالها " لكلّ ساقطة لاقطة" و" الطيورُ على أشكالها تقع"، سيبقى الخطّ المائز مابين الإنتصار الحق والإنتقام الباطل عَمِيّاً عن ملاحظة العيون والذمم إلا عند من اتقى ،
وتعزيزاً للقول..
دخولاً في دائرة الوضوح الأخلاقيّ من بوّابة النصّ المقدّس، نقول: إنّ للإنتصار من المفسدين في شرعة العدل الإلهي سنداً، قال تعالى (لايُحِبُّ اللهَ الجَهْرَ بالسُّوءِ من القوْلِ إلّا منْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَميعاً عليماً) وفي آية أخرى( وَالّذِينَ إذا أصَابَهُمُ البَغيُ هُمْ يَنتَصرونَ). إذن هي رُخصة من الشارع الأقدس لاغُبار عليها لمحاربة جراثيم الفساد ومكافحة الزوائد السرطانية المهلكة للبلاد والعباد، فلا تثريب على من أراد الإنتصار لنفسه ولبلده من طغيان المفسدين أن يفضحهم ويعرّيهم، ولكن كل ذلك يكون في إطار الوثائق الدامغة والدلائل غير ذات الشائبة.
وإسقاطاً على ماتقدّم، في المجال الوظيفي مثالاً موضوعيّا، وإذا ماعلمنا أنّ المسؤول المفسد لايعيّن إلا فاسدا الذي بدوره لاينتج غير الفساد، ندرك مدى قطبية المفسدين وانتشار سطوتهم ونفوذهم، كما سنشهد مساحة الدائرة المتعدّدة الأقطار التي يسير فيها الفساد، وجسامة خطر المفسدين وعِظم المهمّة الملقاة على رؤوس المصلحين في محاربتهم بما يؤكّد إلزامية الجميع بمواجهتهم وصدّهم كجهة متراصّة لاينفذ إليها التردّد أو الكسل،
فملّة المفسدين ملّة واحدة.. مثلهم كالبذرة والثمرة تعرف أحدهما من معرفة الآخر، أو إن شئت في توالد الفساد كمثل البيضة والدجاجة لاتعرف للأسبقية فيهما من سبيل غير أنّها بالنتيجة تنمو متكاثرة، وعليه لِمن شاء أن يحارب الفساد في وزارة معينة هناك طريقان للمعاينة والمعالجة: أن ينظر إلى الوزير.. فإن كان فاسداً وجب تغييره ومَن دونه من وكلاء ومدراء عامين ورؤساء أقسام ودون ذلك، أو من جهة أخرى أن ينظر إلى أدنى حلقات المسؤولية في هيكل الوزارة.. مدير الشعبة مثلاً فإن تبيّن فساده وجب تغييره وتغيير مسؤوليه الأعلون من رئيس قسم فمدير عام فوكيل وزير وصولاً الى الوزير ذاته. إنّه الحلّ الثوريّ بالحساب الفوريّ والإقتلاع الجذريّ الذي تطالب به الجماهير في مظاهراتها (الجمعتية).
https://telegram.me/buratha