إعتصرت العراق ومنذ فجر وجوده, صراعات عديدة, كان الحظور فيها غالبا لثلاثة أطراف: السياسة, الدين, والأهداف النبيلة.
لا أنكر أن للدين مجالا واسعا للحركة, في الممارسة السياسية في العراق, إلا أن أوضح ملامحه بدأت تظهر, في عهد خلافة مولانا أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام؛ ومنها بدأ الدين يأخذ حيزا كبيرا, في مجال الصراع السياسي؛ مع الأخذ بنظر الإعتبار, أن الصراع السياس-ديني في العراق, كان غالبا ما يتقوم بفئتين: الأولى السلطوية المتحكمة بزمام الأمور, والتي كانت في الغالب تمثل لونا طائفيا مذهبيا معينا, تمارس فيه دور الإقصاء والإبادة تجاه الآخر؛ والثاني الذي يمثل إسلاما سياسيا, اتخذ جانب المظلومية, ومحاولة البقاء والديمومة؛ ما أريد الوصول اليه, هو أن رجل الدين في العراق, ومنذ مئات السنين كان على تماس, و حراك مستمر مع السياسة, سواء أكان رجل الدين ظالما أو مظلوما !
القرن العشرين, موصولا به القرن الواحد والعشرين؛ كذلك حمل إرهاصاته السياس-دينية البارزة, فكان أبرز ما يميزه هو العمل السياسي, القائم على التفريق بحسب المذهب, أو ما يطلق عليه(على الهوية)؛ فكانت مذابح الطاغية صدام؛ أعقبها سياسة إبادة النسل, التي اتخذها الإرهاب التكفيري الوهابي السلفي شعارا له.
في خضم هذه الأحداث, كان دور رجال الدين, في الحوزة العلمية الدينية في النجف دورا بارزا, فاعلا, منفعلا, مؤثرا, متأثرا, بما يجري على الساحة من أحداث؛ بل كان في أكثرها مسَيِّرا, سواء على صعييد التسيير السري, لعمل الجهات المعارضة للدكتاتور صدام, من خلال الدعم المعنوي والمادي لهم أحيانا؛ أم من خلال التأثير المباشر والصريح, على سير العملية السياسية, وتوجيه مساراتها وتعديلها, بإعتبارها الراعي الأبوي, الذي حاز ويحوز دوما, على مقبولية شبه مطلقة لدى كل الأطراف؛ والأحداث أثبتت ذلك.
لم يدر في خلد الكثير من السياسيين, أن المرجعية تستطيع أن تزلزل عرشا, أو تقتلع طاغيةً؛ فهم كانوا معذورين, لأنهم لا يؤمنون بالسياسة, إلا ماكان مصاحبا منها للفرض والتسلط؛ فمفهوم القوة الناعمة الذي استخدمته المرجعية الدينية, وأصدق مثال عليها هو غلق الأبواب, بوجه حكومة السيد المالكي السابقة, لم تكن تدر في خلدهم أنها البداية.
فلو أردنا الرجوع إلى أصل التغيير الذي نادت به المرجعية, وأيّدها فيه أكثر الشعب العراقي, بل وأكثر السياسيين, إنما بدأت بوادره الأولى من تلك الأبواب الصغيرة, التي تشكل المدخل الى مكتب المرجعية في النجف؛ فغلق هذه الأبواب, كان السهم الأول الذي أطلق بنعش الدكتاتورية والتسلط؛ إضافةً الى المراقبة والمتابعة الدقيقة جدا, التي قام بها الجهاز المرجعي, لكل الأحداث والإرهاصات والإنهيارات, والتي انتهت بسقوط الموصل؛ فما كان منها إلا أن تدخل بقوة مرة أخرى, لتصحيح المسارات, وتعديل الإعوجاجات؛ وما فاقم من المصاب, هي الأحداث الأخيرة التي نتجت عن سوء إدارة وتدبر, وحمق وتكبر, من قبل هرم السلطة الأعلى؛ فكان للمرجعية صولتها الناعمة بالتلميح مرة, وبالتصريح أخرى.
إحتاجها العراق, وتوسل العراقيين تدخلها, لتنقذ ما بقي من وجودهم (كشعب) يعيش في (وطن)؛ وقد ظن الطغات أنهم قادرون على سحق المرجعية وتسفيه خطابها, وإيقاف دورها, فخاب سعيهم , وبطل مرادهم؛ فقد جاءت جملة التوصيات والتحركات التي صدرت من المرجعية, لتقويم جدارٍ قد إنهد بنائه, وتضعضعت أركانه, فكانت منهم فتوى الجهاد.
عجيبة هي هذه السنة: 2014, حيث اجتمعت عشرات المشاكل, بل المصائب, على هذا البلد وأهل هذا البلد؛ سقوط عدد من المحافظات, تهجير مئات الآلاف, قتل وذبح وتفجير عشرات الآلاف من المواطنين, تفجير الأماكن المقدسة, وأخيرها: أزمة سياسية قوية تعصف بالبلد, مواجهة سياسية برز فيها وبوضوح, المتشبثين بالمناصب بالضد من إرادة أغلب الشعب, والكتل السياسية والمرجعيات الدينية الداعية للتغيير.
تعود المرجعية مرة أخرى ليكون لها سبق الفوز في هذه المنازلة؛ فكان ما أرادت؛ وتم إقتلاع الشجرة الخبيثة من جذورها, من غير أن تراق قطرة دم واحدة؛ ونجحت في أن تمازج بين الأهداف الوطنية, والسياسية, والإجتماعية, والأخلاقية, والحياتية النبيلة, وبين المسار الديني, والخط المذهبي الذي تتميز به.
حفظك الله سيدي يا نائب الحجة عج.
بقلم.محمد أبو النواعير- ماجستير فكر سياسي أمريكي معاصر- باحث مهتم بالآديولوجيات السياسية المعاصرة.
https://telegram.me/buratha