سعد الزيدي
مقام المرجعية الدينية في مجتمعنا؛ مقام ذو قداسة، باعتباره التجسيد العملي لحجة المعصوم على العوام، كما في رواية (وأما الحوادث الواقعة فأرجعوا فيها الى رواة حديثنا فأنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله )، لهذا وجب حقهم علينا بالإضافة الى إتباعهم، أو تقليدهم وأخذ الأحكام منهم، في الفروع وفيما هو قابل للاجتهاد .
الإمام عليه السلام حدد كنه مواصفات هؤلاء الرواة، كما في رواية (فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواء مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوا)، وبذلك كانت مرتكز عقائدي هام جدا، عند أتباعها في زمن غيبة المعصوم عليه السلام.
واستنادا الى هذا الفهم؛ فهي تتفرد بخصوصيات منها: (الراد عليها كالراد على المعصوم )، وتمتاز بمجموعة مميزات منها: العمل في كل الظروف، ولم يسجل عليها فشل واحد في تاريخها، وتتميز بمجموعة خصال؛ فهي تجمع مع الدراية الكاملة بما هو المطابق الى شريعة السماء، دقة المعرفة بمصالح أتباعها، وبالإخلاص المطلق في التعاطي معهم، وبماهية المخاطر، وما هي الإجراءات اللازمة لدرئها، كما تمتاز باليقظة الدائمة.
بَين أساطين المذهب الجعفري آليات للتعرف على هؤلاء النخبة، من رواة حديث آل البيت النبوي عليهم السلام، فلم يعد خافيا من هم هؤلاء، ولا شك في أهمية دورهم التاريخي والمعاصر، كما مثبت في تاريخ الأمة وكما نعيشه واقعا، فهم اليوم القيادة الميدانية المتصدية للحوادث الواقعة، والانعطافات والإرهاصات الخطيرة في مسيرة الأمة.
إن المرجعية الدينية تنطلق في أداء وظيفتها التي أطرتها السماء، من الحرص الشديد على صيانة المصالح العامة، غير منتظرة جزاءً ولا شكورا، ممن يعترف بالجميل، ولا أبهة بلوم من جهد الحق، وأن مساحة تأثير المرجعية في أدورها الرعوية والأبوية، تمتد حتى تتداخل مع ساحة الآخرين المخالفين عقائديا، دون تصادم أو رفض من كل الذين تظلهم سماء بلاد المسلمين، خصوصا في مجتمعنا العراقي، وبذلك نالت تقديرهم وثقتهم، فهي القائدة في مجتمع المكونات، على أسس قومية ودينية ومذهبية .
أن إقصاء دور المرجعية الدينية، أو مصادرته أو تهميشه، على أقل التقادير في المجتمعات الإسلامية، من الحياة الفردية والاجتماعية، يأتي أما بناءاً على تبني الحكومات الاستعمارية وحتى الوطنية، بشكل معلن أو غير معلن، سياسة الأيديولوجيات المخالفة أو المضادة، بشكل أو بأخر في أدارة المجتمع، تحت عنوان الدولة المدنية (الفصل بين الدين والدولة )،مثل الشيوعية واليسارية والاشتراكية والرأسمالية، أو السياسة الليبرالية العلمانية بشكل عام، وهؤلاء يملكون مشروع مضاد، ولدينا كلام معهم في مقال منفصل، فهم رافضون الأيديولوجيات الدينية، وليست الحوزوية بمعنى أضيق، ويقولون بأنها كانت سبب وراء انحسار نسبة المثقفين في المجتمع، وبالتالي تأخر بناء وتقدم البلدان .
أما الحكام والأشخاص المتحررون من الاستعمار والتبعية، الذين يّقصون المرجعية من حياتهم، أو يغيبون تأثيرها ويصادرون دورها، أو يعتمون عليه بأي وسيلة غير وسيلة التصفية الجسدية، فهؤلاء يبتعدون عن المفاهيم العقدية، ولا يستحضرونها في تشريعاتهم كما ينبغي، ولا في مفردات حياتهم، وهم بالتالي (مسلم في الهوية فقط وكذلك الانتماء الفرعي أو المذهبي هو أيضا في الهوية فقط )، وسببه (الدين لم يستقر في لهواتهم ولم يتجاوز تراقيهم، بل كان لعقاً على ألسنتهم يلوكونه ما درت عليه معايشهم فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون) .
أما الذين يصرحون بأتباعهم للمرجعية، فهم أثنين(الذين جعلوا القرآن عضين )، فرقوا القرآن أعضاء وأجزاء أمنوا ببعض بما يطابق أهوائهم وكفروا ببعض بما كان غير موافق أهوائهم، وهؤلاء انتقائيين في المفاهيم فهم يوظفون ويستثمرون مفاهيم معينة، في أوضاع وظروف معينة، فهم بالتالي لا يردون على المرجعية الدينية ويخطئونها فقط، بل يزايدون على المراجع والحوزة العلمية بصنوف المزايدات، ولا يملكون سبب عقلائي أو مسوغ مشروع، ويستمر بهم الغي والطغيان حتى يكونوا الحاضنة للبتريين، (يحاربون الإمام ويقولون ارجع يا بن فاطمة..)هؤلاء أنصاف المثقفين، الذين حرفتهم الثقافات المعادية والمضللة والمغشوشة يُسيسون المفهوم الديني، وفيهم خطورة لانتشارهم كثيراً في مجتمعنا، وهم الذين علينا التصدي لتأثيرهم الثقافي.
الثاني مؤمنون ولكن خلطوا عمل صالح وأخر..أو نسوا حضا مما بشروا به...) كون نصيبهم من المعرفة النزر اليسير، ينعقون مع كل ناعق، حرمتهم قساوة العيش، وظلم الأنظمة المستبدة والمعادية لمعتقدهم، من تتبع تعلم أحكام دينهم، وهؤلاء شكّل الجهل فجوة كبيرة بينهم وبين ومرجعيتهم، كنتيجة مباشرة للعوز الثقافي المتجذر، وهو القاسم المشترك بين هؤلاء، وأولئك أصحاب الثقافات المغشوشة، بالإضافة الى الاضطهاد المذهبي، والخطاب المضلل، وغياب المعلم الميداني المتخصص، والمنفتح على الممارسات الخاطئة.
إن انحسار التوعية العملية في المجتمع، باعتبارها ترجمة عملية للأمر بالمعروف والنهي عن المنك،ر واختصارها في الجامع والحسينية، وعدم مراعاة حقيقة (أنه تعالى يُعبد من حيث يٌريد لا من حيث نريد)، وأن العبادة تعني تطبيق الشريعة في كل الفعاليات الحياتية الاجتماعية والاقتصادية، لا فقط طقوس الصلاة والصيام المجردة.
هذا الواقع دفع هؤلاء خارج دائرة المتدينين، وليس خارج دائرة القبول، فهم لم يقدروا منفردين فهم فلسفة العبادات أو ترتيب الأثر عليها، باعتبار أن الطقوس لها مظهر خارجي، ولها حالة حركية تتجسد بالأثر المترتب على أداءها، وهؤلاء يصفهم الإمام عليه السلام:(لو عرف الناس خيرنا ما مالوا الى غيرنا )، وهم نسبة كبيرة في المجتمع.
إن القيادات والنخب الثقافية، من أتباع المرجعية ذوي الحظ الأوفر بالقرب الإلهي، كونهم علماء؛ وعلى العالم إظهار علمه، وعليهم مسؤولية إنتشال هؤلاء من الجهل، كونهم أصحاب الرغبة الصادقة في العلاقة مع الخالق سبحانه وتعالى، ويتلهفون لقراءة فكر المرجعية، وسماع رأيها ومتابعة توجهاتها.
إن ظاهرة عدم التقيد برأي المرجعية، والتي شهدناها في مفردة الانتخابات البرلمانية الأخيرة، والسلبيات في علاقتنا مع المرجعية، وحتى عدم الرد على تطاول بعضهم، والهجمات الثقافية المعادية، سببها الرئيس العوز الثقافي كما أسلفنا.
إن ردم هذه الفجوة، بحيث يصون المؤمن نفسه من الهفوات، التي قد تقود للرد على الإمام نفسه عليه السلام ، يستوجب التعرف الدقيق على المرجعية، والاعتقاد بمنزلتها ودورها، ثم مراعاة التطبيقات العملية للفتية والإرشادات الصادرة عنها.
ومن أهم العوامل التي تقلص مساحة تحرك القرار بين السلب والإيجاب في الممارسات العملية وبالتالي درجة المصداقية للمعتقد، تأتي من المكاشفة مع النفس والخلفية التي ينطلق منها الإنسان.
إن تمكين الحالة العملية من الظهور والتجلي، في كل مفردات الحياة اليومية للإنسان، وفي كل الظروف، تؤشر ترسخ عمق الاعتقاد، الناتج من التوعية والتثقيف، والممارسات العملية بآليات معاصرة، ودخول عامل التجربة بين حين وأخر، على خط الاعتقادات ،والتعامل بالواقعية والمقارنات، وكل ما يترتب على الاعتقاد من استحقاقات، وبذلك يكون القرار دائما بالاتجاه الصحيح دون تردد.
أما التفاخر بالاعتقاد النظري المجرد يبقى بطولات فارغة، فلا يقال للمرء شجاعا، ما لم تظهر منه الشجاعة في حالتها العملية وفي محلها، وكذا الكريم والسخي والعالم والمتدين.
https://telegram.me/buratha