بقلم: الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتي
توطئة:شكلت واقعة الغدير (غدير خم) في (الثامن عشر من ذي الحجة السنة العاشرة للهجرة) احدى اهم منعطفات الفكر الاسلامي، بل انها الاعظم على الاطلاق بعد نزول الوحي من السماء في بداية البعثة النبوية المباركة، ولعل قيمة ما جرى في (غدير خم) في الثامن عشر من ذي الحجة يتمثل ليس فقط بالامر الالهي:" يأيها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين ". (1) بتعيين الامام علي بن ابي طالب عليهما السلام، وليا وخليفة ووصيا ووارثا للنبي الخاتم صلوات الله عليه وآله، والذي من اجله امر الرسول بارجاع من تقدم من الناس الى هذا الموضع وحث من تأخر عنه ليجتمع اكثر من (124 الف) حاج من الرجال والنساء ليتم التبليغ فصلى بهم الظهر واعتلى اقتاب الابل التي وضعت له منبرا كي يراه الناس وخطب بهم مبلغا هذا الامر الالهي وقد نقل رواة الطرفين تفاصيل هذا التبليغ وساكتفي برواية النسائي:" لما رجع رسول الله رسول الله عن حجة الوداع ونزل غدير خم، أمر بدوحات فقممن (كنس ما تحتهن) ثم قال: كأني دعيت فاجبت، وأني قد تركت فيكم الثقلين احدهما أكبر من الاخر، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، ثم قال: إن الله مولاي، وأنا ولي كل مؤمن ثم اخذ بيد علي فقال: من كنت مولاه فهذا وليه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ". (2)هنا فقط وبعد هذا التبليغ الذي سنناقشه في دراستنا هذه ينزل الوحي مرة اخرى برضى الله عزوجل وتأكيده لقيمة هذا التبليغ الذي عده الله وفق النص الالهي موازيا للرسالة ليبين الرسول الخاتم حقيقة العلاقة بين القرآن وأهل البيت في حديث الثقلين:" وإني سائلكم حين تردون علي عن الثقلين فانظروا كيف تخلفوني فيهما: الثقل الاكبر كتاب الله عزوجل سبب طرفه بيد الله تعالى وطرفه بايديكم، فاستمسكوا به ولا تضلوا ولا تبدلوا، وعترتي أهل بيتي، فانه قد أنبأني اللطيف الخبير انهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ". (3)ليأتي الوحي الالهي بالنص بإكمال الدين وتمام النعمة:" اليوم اكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا ". ( 4)ان وقوع تبليغ الرسول الخاتم بولاية علي بن ابي طالب ومقارنة اهل البيت بالقرآن بين نص التبليغ ونص اكمال الدين واتمام النعمة يقطع بوجوب الاتباع لانه لايخرج عن هذا الحكم الذي اراده الله به من اصل نص التبليغ في القرآن الكريم.فلسفة نص التبليغ الالهي:" يأيها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين ".يقع هذا النص القرآني الكريم في نطاق الحكم القطعي حيث فيه تشديد واجب الوقوع واشعار للرسول الخاتم بان الله عزوجل مسانده ومؤيده وعاصمه من الناس، ثم ابلاغ من الله لرسوله ولكافة الناس بان الامتناع عن اتباع هذا التبليغ معناه الكفر بالله، ونحن هنا نناقش هذه المفاهيم:اولا: قوله: " يا ايها الرسول": نرى ان الله تعالى شأنه لم يستعمل في هذا الموضع لفظ (النبي) بل استعمل لفظ (الرسول) فقال: " ياأيها الرسول " للدلالة على شمولية الامر ففي النبوة اختصاص وفي الرسالة شمول وعموم، فكل رسول هو نبي ولكن ليس كل نبي هو رسول، فالنبوة قضية اضيق من الرسالة، والرسالة اوسع وأشمل، ومن هنا كان كل اولي العزم رسلا (نوح وابراهيم وموسى وعيسى والخاتم محمد صلوات الله عليه وعليهم اجمعين) كلهم كانوا انبياء مرسلين لشمولية شرائعهم في كل عصر من عصورهم. من هنا يصبح التبليغ لايختص بزمان او مكان بل هو تبليغ لكل العصور ولكل الشعوب والامم لانه جاء للناس وليس لمجموعة محددة او لتلك الامة في ذلك العصر فقط.ثانيا: قوله: " بلغ ما انزل اليك من ربك ":جاءت صياغة التبليغ بفعل الامر (بلغ) وهو ما يقطع بكون التبليغ حكم شرعي يقع في باب الاحكام الواجبة، وتأكيد ذلك قوله: " ما انزل اليك من ربك " وهو من الاستعمالات القرآنية القاطعة.ثالثا: قوله: " وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ".هنا تصريح من الله عزوجل بمفهوم وقيمة هذا التبليغ الالهي الذي جعله موازيا للرسالة بل انه يصبح معيارا لتبليغ الرسالة المساوية فاذا لم يتم التبليغ فالرسالة السماوية لم تبلغ، كما هو مؤكد في قوله: " فما بلغت رسالته "، وهو من الاستعمالات القرآنية النادرة التي لم ترد سابقا في النصوص إلا في هذا النص وهو يحمل نوعا من التهديد والتوكيد القطعي.رابعا: قوله: " والله يعصمك من الناس ":يكشف هذا المقطع من التبليغ حساسية هذا التبليغ في المجتمع القبلي وخاصة ان المقصود به وهو الامام علي بن ابي طالب عليهما السلام هو من اخضع الطواغيت وقطع رؤوس الشرك في بدر واحد والخندق وخيبر وغيرها من المعرك الاسلامية الفاصلة، وهو من نزلت به ايات القرآن تنوه به وتمتدح فعله وجهادة وتحدد موقعه من الرسالة في ايات لاتحصى مما اثار غيرة وحقد الكثير من الصحابة، ذلك الحقد الذي تجلى في محاولات الاغتيال والسطو على موقع الخلافة في السقيفة، و محاولة احراق بيت فاطمة وعلي، والاعتداء عليها، وهتك حرمتها، وضربها و حصرها خلف الباب حتى اسقطت جنينها (المحسن)، ووضع يد السلطة على ارثها في (فدك)، وغيرها من الجرائم التي تخرج فاعلها من ربقة الاسلام والتي تكتظ بها كتب الفريقين. من هنا قال الحق سبحانه : " والله يعصمك من الناس "، فموقف الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله كان موقفا عصيبا يستدعي رعاية الهية مباشرة ولاجل هذا جاء هذا المقطع بصيغة التأكيد القطعي لانه صادر عن الحق سبحانه.خامسا: قوله: " إن الله لا يهدي القوم الكافرين ":تضع خاتمة النص التبليغي مفهوما حكميا يقضي بوجوب اتباع التبليغ باعتباره حكما واجبا وجوبا قطعيا لايمكن الحيود عنه، وتتضح وجوبيته في ان رفض التبليغ وعدم الايمان به يقوم مقام الكفر، فالتبليغ هنا هو هداية للناس كافة، وغير مرتبط بفئة دون الاخرى، ولكن الفئة (القوم الكافرين) التي ترفض هذا التبليغ وتتنكر له تصبح خارج الهداية باعتبارهم من الكافرين كما يأتي به النص القرآني بجلاء قطعي.فلسفة الثقلين بين الغدير والظهور:يقوم حديث الثقلين على قضية علية (سببية) تحدد العلاقة بين الكتاب (القرآن) وبين أهل البيت عليهم السلام (وهم الذين نزلت بهم آية التطهير، وآية المودة، وأية المباهلة، وسورة الانسان)، بل ان (ربع القرآن) نزل في اهل البيت كما يقول الامام الصادق عليه السلام، وكلها تحدد وتبين من هم أهل البيت (عليهم السلام) باعتبار ان هذه الايات نزلت في (علي وفاطمة والحسن والحسين) عليهم السلام، فالنصوص لدى الطرفين تقطع بكون ان هؤلاء هم من ارادهم الله بقوله أهل البيت وهم من ارادهم الرسول الخاتم بقوله (اهل بيتي او عترتي) كما جائت به روايات الطرفين. من هنا فان حديث الثقلين وقوله صلوات الله عليه وآله بغدير خم:" وإني سائلكم حين تردون علي عن الثقلين فانظروا كيف تخلفوني فيهما: الثقل الاكبر كتاب الله عزوجل سبب طرفه بيد الله تعالى وطرفه بايديكم، فاستمسكوا به ولا تضلوا ولا تبدلوا، وعترتي أهل بيتي، فانه قد أنبأني اللطيف الخبير انهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ".فانما هو قول يقطع بوجود علاقة سببية وتلازمية بين الثقلين (القرآن والعترة)، بحيث لايمكن نفي احدهما عن الاخر، أو القبول باحدهما دون الاخر، وهنا سننقاش طبيعة هذه العلاقة في كون ان الاسلام خاتم الرسالات:اولا: أن النص القرآني حمال أوجه فيه الخاص والعام، المطلق والمقيد، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، وفيه استعمالات لغوية شتى، كأستعماله المفرد لصيغة الجمع والعكس، واستعمال الماضي للحاضر والعكس، وغيرها كثير، هذا غير ان معجزة القرآن هي في لغته التي تحدى بها الله أهل اللغة في أن بمثله:" وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهدائكم من دون الله ان كنتم صادقين ". (5)وهذا الاعجاز يعني ان الامة بحاجة لمن يفسر لها هذه النصوص ويشرح الاحكام ويبين الاصول من الفروع، وخاصة ان هذا الكتاب هو آخر كتاب سماوي ينزل على البشر إذ لانبي بعد الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله، ولا رسالة بعد رسالة الاسلام. ومن هنا فلابد من وجود من يقوم مقام الرسول في تبيان الغوامض وشرح ما غاب عن الفهم، ونفي الشبهات عن الكتاب العزيز، وهل يوجد غير الامام علي وأهل البيت الذين اجتباهم الله ليكونوا عدولا للقرآن فطهرهم من الدنس وخلصهم من الرجس، ليكونوا خزانا لعلمه وحفظة لوحيه؟ فكانوا كما اراد الله لهم.ثانيا: ان القرآن كتاب انزل من الله ليستمر حتى نهاية التاريخ الانساني على سطح الارض وتلازمه مع العترة (أهل البيت عليهم السلام) يقطع بانهم سيستمرون في هذه الملازمة حتى نهاية التاريخ وهذا يؤكد الحاجة الى استمرار الحجج الالهية مما يؤكد بقاء الامام المهدي عليه السلام حتى نهاية التاريخ.ثالثا: يقول الرسول الخاتم في حديث الثقلين: " فانه قد أنبأني اللطيف الخبير انهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ". مما يؤكد ان هذا الاستمرار والملازمة لاينقطع بنهاية الحياة الدنيا، بل انه سيستمر حتى بعد اليوم الموعود يوم الدين (يوم القيامة)، حيث ان ورود الحوض سيكون في الاخرة مما يؤكد بقاء هذه الملازمة في الحياة الاخرة لتكون معيارا للتفريق بين المؤمن والكافر.رابعا: ان ارتباط الثقلين (الكتاب والعترة) هو ارتباط وجود وتكوين، فالقرآن نص ألهي والرسالة والامامة أمر ولطف الهي:" وإذ إبتلى اراهيم ربه بكلمات فاتمهن قال اني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لاينال عهدي الظالمين ". (6) " ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين ". (7)فالامامة إذا كالرسالة (جعل الهي) وهي ليست من مختصات البشر بل انها من آيات الله عزوجل الغاية منها هو الاستمرار بالرسالة وتبيان أمورها بعد وفاة الرسول، فكيف اذا كانت هذه الرسالة هي الرسالة الخاتم ولا نبي بعد محمد (صلوات الله عليه وآله)؟ فالامة تحتاج الى قائد منصوص عليه من الله لان الشريعة الاسلامية قواعد الهية لايعلمها إلا من هو كان عالما من الله عزوجل، وليس لانسان غير معصوم مهما بلغ من العلم ان يقول انه يعلم تفسير الكتاب العزيز تفسيرا كما اراده الله، أو انه يعرف السنة كما ارادها الرسول الخاتم (صلوات الله عليه وآله)، فمن هنا نعلم انه ما من انسان يدرك غائية الشريعة بالمفهو الالهي غير المعصوم الذي اجتباه الله واختاره بنصوص القرآن.الفلسفة القيمية لعصر الانتظار:وبعد كل ذلك فان قيمة عصر الانتظار تكمن في ان الانتظار يصبح مسيرة تكاملية للارتقاء بالوعي الجمعي للامة وتخليصها من شوائب الانحراف وتهيئتها للظهور المبارك، والانتظار يمثل احد اشكال الاستمرار بهذه الملازمة بين الكتاب والعترة، فغيبة الامام المهدي لاتعني انتفاء وجوده او عدمة، بل انها تقدم مفهوما في كون الامام يصبح في غيبته معاصرا لكل حوادث حركة التاريخ ومستوعبا لها استيعابا يقينيا ويصبح شاهدا عينيا على كل تفاصيلها، مما يعني انه سيكون في ظهوره المبارك عالما مدركا لكل خفايا الحدث التاريخي.لاشك ان قيمة عصر الانتظار تكمن في اشكال التمحيص التي تبين مدى بقاء من حافظ من المسلمين على الشريعة من غيرهم، وتعين الصابرين على الاختبارات والابتلاءآت:" أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ". آل عمران/142.فالانتظار قضية عقلانية لتحديد درجات الصابرين ولكشف المنافقين والمرتابين، ولتبيان فضل المنتظرين مع ما يصيبهم من البلاء، وإضطهاد الحكام وتكذيب المكذبين.من هنا لايصبح يوم الغدير منطلقا لعصر الامامة فقط، بل يوما لربط وعي الامة الاسلامية بقضية نهاية التاريخ باعتبار تسلسل الامامة الذي يمثل بدورة تصاعد مدركات الوعي الجمعي وتحضيره للخروج من حالة الانتظار والترقب للعيش في واقع الظهور الذي اصبحت ملامحه قريبة الوقوع.
الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتيdr-albayati50@hotmail.co.ukالمملكة المتحدة - لندن6/ كانون الاول / 2009.....................................1- المائدة/67.2- راجع السنن الكبرى/ج/5ص/45، الحديث 8184/12. وكان مسلم قد اخرجه في صحيحه في حديث ابن حيان التيمي نفس المصدر ج/10 ص/14/113.3- ينابيع المودة/52. وبلفظ مقارب في فرائد السمطين، ج/2/274 حديث/539. وايضا احاديث رقم/308، 321، 323.4- المائدة/3.5- البقرة/23.6- البقرة/124.7- القصص/5.
https://telegram.me/buratha