مقدمة في العرفان:
تتجذر مفاهيم علم العرفان عند القواعد الاصولية لمعرفة المخلوق بالخالق، وهي معرفة تنحو منحا تكامليا في تربية الانسان وتقوية مناهجه العقلية والنفسية لتتوحد في طاعة الله، طاعة هي نتاج تفاعل عقلي ونفسي يتشكل في الادراك العملي للانسان، ولعل افضل تعريف، بل هو الارقى على الاطلاق، كما جاء عن سيد العارفين، وازهد الزاهدين الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، فقد قال:
" أول الدين معرفته وكمال معرفته التصديق به وكمال التصديق به توحيده وكمال توحيده الإخلاص له وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ". (1)
في البدء يجب التوضيح أن كل حرف (هاء – هـ) هو (هاء المضاف إليه) ورد في هذا الحديث هو يعود إلى (الله) تعالى شأنه، فمعرفته يقصد بها معرفة الله وهكذا في بقية سياق الحديث.
يقدم الامام علي عليه السلام، موقفا تحقيقيا في علم المفاهيم، وهو يؤسس لنظرية معرفية تتكامل بتحديد الكمالات المعرفية وصولا لادراك معنى الاخلاص لله عزوجل، فكما الاخلاص لايكون ألا بنفي الصفات عنه تعالى، انطلاقا من فلسفة الهية تقول بان: (تنزيه الله ونفي الصفات عنه دليل إلى توحيده)، اليس قولنا كما في كتابه العزيز: (لا إله إلا الله)، هو ابتداء بنفي ان يكون له شريك، فيكون النفي دليلا على الاثبات! فالابتداء بالنفي ليست حكمة لغوية فقط، بل هي قضية فلسفية تقوم على تنزيه الخالق عن سلبيات المخلوق، إذ لا مشابهة خلقية (بالضم) ولا خلقية (بالفتح) بين المخلوق والخالق وهذة تقوم على تنزيهه تعالى شانه من أن يكون له شبيه أو مثيل أو كفوء وقد قال في كتابه العزيز: " قل هو الله أحد * ألله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد ". (2)
وهذا المعنى يؤسس لقيم ومفاهيم معرفية ثابتة، فالتوحيد عقيدة ألهية وشريعة سماوية تتطابق ومدركات العقل السليم، ألم يقل الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله: " ما قاله الشرع (ما جاء به الشرع) حكم به العقل ".(3) فالتوحيد قضية عقلية كما هي شرعية عقائدية، وقد وجدنا في بحوثنا السابقة تقييم مدرسة أهل البيت عليهم السلام لقيمة العقل فاعبروه احد مصادر التشريع الرئيسية حتى امتلأت بحوثهم في معنى العقل وتبيان تاثيره على الحياة والسلوك الشخصي للانسان، حتى قال الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله: " العقل رسول باطن، والرسول عقل ظاهر"،(4) ولما كان العقل دليلا على معرفة الله تعالى، فهو بالتالي أحد أهم معايير السلوك الانساني، ومن هنا قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: " العقول أئمة الافكار".(5)
السلوك:
تبنى الشيعة الامامية موقفا عقلانيا من علم السلوك باعتباره منطلقا لتقويم الشخصية الانسانية وإعدادها إعدادا رساليا، وهو يمثل تطابقا واقعيا بين كل من العقيدة والشريعة وتفاعلات الحياة في حركة الانسان اليومية، فإستشهاد الامام الحسين عليه السلام في كربلاء سنة (61 هـ) كان يمثل استيعابا واقعيا للشريعة حد الاستشهاد، باعتبار ان التكامل المعرفي قد تجاوز الآني إلى المستقبلي، وأخترق حركة التاريخ وصولا إلى الخلود داخل النفوس والعقول، فسلوكة في التضحية لم يكن سلوكا تجاوزيا عن الواقع، بل يمن اعتباره سلوكا يقع في صميم الواقع الرسالي، وهو سلوك إختص به الله انبياءه ورسله وأوصياه في التضحية حفاظا على واقعية الشريعة من الضياع في أزمنة الاسفاف. من هنا قال الامام الصادق عليه السلام: " شيعتنا من تمثل بنا ".(6) فمحاولاتنا في الاقتراب من هذا النهج الالهي تضع الوعي الجمعي للامة على الدرب الصحيح.
أبو ذر رضوان الله عليه مثالا:
ذاك جندب بن جنادة بن سفيان الغفاري (رضي الله عنه ت32 هـ) وهو خامس من أسلم على ما جاء في أدق الروايات، قال فيه نبي الرحمة: " ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر ".(7) نفاه عثمان بن عفان إلى الشام، ثم إلى الربذه ومات فيها ولم يكن يملك ثمن كفن.
يتخذ الاتجاه المعرفي عند أبي ذر (رضي الله عنه) منحا تطبيقيا في علم السلوك بل يمكن إعتباره وثله من كبار الصحابة من أمثال عمار بن ياسر بن عمار بن مالك بن كنانة (ت 37 هـ )، سلمان المحمدي (روزبة بن خشنوذان ت 36 هـ) والمقداد بن عمرو بن ثعلبة الكندي (ت 33 هـ)، أساتذة علم العرفان والسلوك، فالمعرفة الالهية لم تكن عندهم عنوانا سطحيا يتكرس في حركات الصلاة قياما وقعودا وسجودا، بل إن الادراك المعرفي تجاوز لديهم كل الانفعالات الانية، وأستغرقتهم العلاقة بالله عزوجل حتى وكأن واحدهم يعيش الاخرة في الحياة الدنيا، حتى انطبقت عليهم الاية الكريمة: " الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والارض ربنا ما خلقت هذا باطلا فقنا عذاب النار ".(8
من هنا يمكن إعتبار السلوك العرفاني لابي ذر (رضي الله عنه) شكلا من أشكال التكامل الواعي لعلاقة الاخرة بالدنيا انطلاقا من كون الدنيا دربا يقود للاخرة، وليس باعتبار الدنيا حقيقة الوجود، فالحقيقة العقلية هنا تعني أختراق الوجود وصولا إلى كمال المعرفة المتحقق في قيمة (حق اليقين)، فالعارف الحقيقي يخترق مساحة (علم اليقين) متجاوزا حقيقة (عين اليقين) ليستقر في ملكوت (حق اليقين). ولما كان (حق اليقين) لا يتحقق من الناحية العملية إلا يوم الدين : " إن هذا لهو حق اليقين ".(9) فأن رجالا من أمثال ابو ذر قد تمكنوا من تحقيق تلك المعادلة الالهية بتطبيق الاخرة في الحياة الدنيا، والتعايش معها نصا وروحا وتطبيقا تشريعيا فهو كأستاذيه الرسول الخاتم والوصي الاكبر (محمد وعلي)، ترتقي خلاياه معارج الروح، وتتجسد الاخرة أمام ناظرية، فيرى ثواب الاعمال وعواقبها، حتى أطلق صرخته في المدنية قبل أن يطلقها في الشام مناديا بالعودة إلى النهج الرسالي بعد أن انحرفت عنه الامة إلا تلك الثلة القليلة من أهل البيت الاطهار ومن صاحبهم.
وعي المجتمع السلوكي:
حددت الشريعة موقفها من السلوك الاجتماعي بإعتبارات ترابط هذا السلوك بالحكم الشرعي، وقد غلب على هذا الترابط النزعة الاخلاقية التي دعا اليها الانبياء والرسل، فقال عزوجل: " يأيها الذين آمنوا لاترفعوااصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ان تحبط اعمالكم وانتم لاتشعرون ".(10)
وقال أيضا: " يايها الذين آمنوا لايسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى ان يكن خيرا منهن ولا تلمزوا انفسكم ولا تنابزوا بالالقاب باس الاسم الفسوق بعد الايمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ". (11)
هذا النوع من التشريع يمثل منهجا لاستنهاض الوعي الجمعي في خروجه من جاهلية الفكر والسلوك لنور التوحيد الالهي، فالمجتمع لايمكن أن يتحول من حالة الركود إلى حالة التفاعل الايجابي ما لم يعي البناء القيمي للافراد في عملية التحول، وهو منهج الانبياء والرسل في بناء مجتمعات تتبنى قيما سلوكية عليا ولتصبح بالتالي مجتمعات تنحو نحو تطور حضاري واعي. .............................. 1- راجع نهج البلاغة.2- الاخلاص.3- الاصول العامة/299.4- التشريع الاسلامي، المدرسي/1/87.5- بحار الانوار، المجلسي .1/96.6- المصدر السابق.7- الحسين والتشريع الاسلامي، الكرباسي/1/357.8- آل عمران/191. 9- الواقعة/9510-الحجرات/3.11-الحجرات/11.
الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتيdr-albayati50@hotmail.co.uk رئيس ومؤسس الاتحاد الشيعي العالمي (أتشيع)المملكة المتحدة – لندن
https://telegram.me/buratha