د.علي المؤمن ||
المهدوية ليست قضيةً نظريةً أو ثانويةً من منظار الإسلام، بل هو مبدأ عقدي ديني أساس من جهة، وواقع اجتماعي ديني قائم من جهة أخرى، فضلاً عن حضوره العميق في الفكر الديني والفكر الإنساني على حدٍّ سواء. والبحوث التي تتناول موضوع المهدوية، وخاصة في إطار مدرسة آل البيت (عليهم السلام)، على مختلف مناهجها، ليست بحوثاً نظرية ترفية، ولا تهدف الى الجدل الفلسفي والكلامي، لأن الإيمان بالإمام المهدي (عليه السلام) هو امتداد للإيمان بأصل الإمامة الممتدة عن أصل النبوة، والموصول بأصل الربوبية والإلوهية.
وإذا كان مبدأ المهدوية عند أغلب مدارس المسلمين، وكذا الأديان الأخرى، السماوية والأرضية، التي تؤمن بعودة المخلص وظهور المنجي، هو مبدأ نظري وموضوع كلامي؛ فإنه بالنسبة لمدرسة آل البيت (عليهم السلام) مبدأ عقدي وواقعي؛ فالمهدي في عقيدة الإمامية له اسم وسلسة نسب وتاريخ ولادة وتاريخ غيبة، وله سفراء ووكلاء وصِلات ولقاءات وأحاديث ورسائل في غيبته الصغرى، وله امتداد موضوعي على الأرض في غيبته الكبرى، ممثل بنوابه العامين، وهم المحدثون والفقهاء العدول. وهذا الامتداد هو الذي أشاد هيكل النظام الاجتماعي الديني الشيعي الذي يقوده هؤلاء النواب، والذين منحهم الأئمة ولاية الفتوى والقضاء والحسبة والمال الشرعي والحكم في عصر غيبة الإمام المهدي (عليه السلام).
ويفرض هذا الواقع على أبناء مدرسة آل البيت مزيد التبصر بحقيقة الحضور الغيبي للإمام المهدي، الذي يمنح النظام الاجتماعي الديني الشيعي في عصر الغيبة، شرعية الوجود والعمل، وعرض الاستدلالات العلمية على هذا الحضور المصيري الأساس، بمختلف المناهج، لأنه لايتعلق فقط بالمعتقدات النظرية والجدلية لمدرسة آل البيت، بل يرتبط ارتباطاً مباشراً بالاحتماع الديني لأتباعها، وبحياتهم اليومية. كما يفرض على علماء المدرسة وباحثيها عرض هذه الاستدلالات على أتباع المدارس الإسلامية الأُخر، في إطار التعارف والتحاور والتقارب، لأن ((الناس أعداء ما جهلوه)) كما يقول الإمام علي (عليه السلام).
وككثير من المعتقدات الدينية المستندة ـــ في إيمان المؤمن بها ـــ الى قاعدة الغيب: ((الذين يُؤمنون بالغيب))؛ فإن الأصل في الإيمان بوجود الإمام المهدي الغائب، وإنه حي يرزق، وبظهوره وعصره، هو الإعجاز الغيبي. وحقيقة الأمور الغيبية هي في علم الله (تعالى)، وعقلنا يبقى قاصراً عن معرفة حقيقة حكمته في خلقه وشرائعه وعقائده، وفي الظواهر التي يتحكم بها، كما أن عقلنا قاصر عن فهم ملايين الظواهر الكونية والأرضية، بل قاصر عن التوصل الى حل أبسط المشاكل التي لا تزال تقض مضجع البشرية. وعدم رؤية الظواهر والوقائع، وعدم الإحساس بآثارها أو عدم فهم أسرارها، لا يعني عدم وجودها وعدم فائدتها وعدم أهميتها، بل يعني أن عقلنا لم يتوصل بعد الى وعيها وحل ألغازها وأسرارها. أما لماذا لم يتوصل العقل البشري؛ فهي حكمة أخرى وسر آخر من أسرار الله في خلقه، و((عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود)) أو ((عدم العلم بالدليل ليس علماً بالعدم))، وهما قاعدتان لا يختلف عليهما عاقلان.
ونؤمن، نحن المسلمون، بما شرّعه الله (تعالى) في كتابه الكريم وبما أشار اليه الحديث الشريف من عقائد وأحكام، ونتعبد بها، حتى وإن لم يتوصل عقلنا الى إدراك أسرارها، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، ومنها سر بعثة الرسول الخاتم في مكة وليس في الهند مثلاً، وأن هذا النبيَّ عربيٌّ وليس صينياً، وأن نسله من بنته السيدة فاطمة وليس من أولاده الذكور الذين درجوا في حياته. ثم أسرار واقعتي الإسراء والمعراج وحقيقتهما، وحكمة أن عدّة الصوم ثلاثين يوماً وليس عشرين يوماً، وأنه يقع في شهر رمضان وليس شعبان، وأن صلاة الصبح ركعتان والمغرب ثلاثة وليس العكس، وأن الطواف حول الكعبة سبعة أشواط وليست خمسة، وأن عدد أئمة آل البيت إثنا عشر وليسوا تسعة.
نعم؛ هناك آراء كثيرة حول أسرار هذه الوقائع والمعتقدات والأحكام وعللها ومقاصدها، لكنها ليست بالضرورة كاشفة عن العلة الحقيقية التي يعلمها الله فقط، ولم يتوصل عقلنا الى حكمتها حتى الآن. وإذا عرفنا أن جوهر الدين هو الإيمان بالغيب والإعجاز الإلهي؛ فيجب أن نقبل بكل أحكامه ومعتقداته، ونتعبّد بها، وليس ببعضها دون الآخرى ((وَعِندَهُ مَفاتِحُ الغَيبِ لا يَعلَمُها إِلّا هُوَ)). وبالتالي؛ تأتي المقاربات البشرية، عبر الأدلة النقلية أو العقلية والفلسفية، للتوصل النسبي الى عللها وكنهها وحقائقها وآثارها، ومنها موضوع الإمام المهدي (عليه السلام) وهو ما اجتهد فيه كثير من علماء المسلمين والباحثين، منذ بدء غيبته الصغرى في العام 255ه وحتى الآن.
وإذا كانت الأدلة النقلية التي تتطابق مع عنصر الإعجاز الغيبي، تؤكد أن الوجود الزمني للإمام المهدي في عصر الغيبة واجبٌ، وظهوره حتمي، وعصره لابدّي، وأن عدمه ممتنع ومحال، وأن حالات نظيرة أخرى، لاتزال قائمة أيضاً منذ آلاف السنين، كعمر نوح وغيبة الخضر وعروج عيسى (عليهم السلام)، وأن الخضر حي يرزق في الأرض؛ فإن الأدلة العقلية، الكلامية والفلسفية، بما فيها الدليل الاستقرائي؛ تقود الى أن غياب الإمام المهدي وطول عمره ممكن، ولايتعارض مع الفرضيات العقلية والفلسفية، بل انها تعضد وجوده وظهوره.
ومن الدراسات المهمة في مجال الاستدلال على وجود الإمام المهدي وظهوره الحتمي؛ دراسة الباحث والأكاديمي العراقي المبدع الدكتور يحيى عبد الحسن هاشم آل دوخي، التي تحمل عنوان: ((المهدي الموعود في ضوء الاستقراء وتراكم القيم الاحتمالية)). وتقوم الفكرة الأساسية للدراسة على إثبات وجود الإمام المهدي، بأصله العقدي وشخصه وصفته، كوجود واقعي، من خلال تطبيق قواعد المنهج الاستقرائي المبني على الاحتمالات المنطقية الرياضية، ودعمها بالأدلة العقلية والنقلية. أي أن مقاربة الدراسة ليست فلسفية محضة، بل هي مزيج من الفسلفة والمنطق والرياضيات والكلام والحديث؛ الأمر الذي يجعل القارئ يعيش متعة فكرية وثقافة كبيرة عند قراءة الدراسة، فضلاً عن قدرتها على تكريس قناعات المؤمنين بحقيقة وجود الإمام المهدي، ودفع المشككين الى إعادة التفكير، وكذلك دفع غير المؤمنين الى التوقف عند مخرجات الدراسة، وهو ما فعله السيد محمد باقر الصدر في كتابه "الأسس المنطقية للاستقراء" حيال اثبات وجود المطلق الحي الصانع للكون والحياة، وفق نظرية الاستقراء والاحتمالات.
وأرى أن دراسة ((المهدي الموعود في ضوء الاستقراء وتراكم القيم الاحتمالية)) مهمة في موضوعها وجديدة في مقارباتها ومخرجاتها، وهي محاكاة للاستدلال الاستقرائي للسيد الشهيد الصدر على وجود الله الخالق الصانع (سبحانه) في كتاب "الأسس المنطقية للاستقراء"؛ فقد أخذ الباحث الدكتور يحيى آل دوخي بمنهجه، وطبّقه للاستدلال على وجود الإمام المهدي. ورغم هذا الاقتباس المنهجي، إلّا أن موضوع التطبيق الذي قاربه الباحث، لم يسبقه إليه أحد بهذا التفصيل والعمق. وتقود مخرجات الدراسة القارئ المنصف الى حقيقة أن ولادة الإمام المهدي واقعة تاريخية متحقِّقة، وأنه غاب وسيظهر بعد حين بإذن الله (تعالى) عالم الغيب والشهادة.
ـــــــــــ
(*) المقال بالأصل هو تقديم لكتاب ((المهدي الموعود في ضوء الاستقراء وتراكم القيم الاحتمالية)) للدكتور يحيى آل دوخي
https://telegram.me/buratha