د.أمل الأسدي ||
ننطلق هنا من مقولتين للفيلسوف الفرنسي (روجيه غارودي) الأولی هي:
" منذ عصر النهضة أي منذ ولادة الرأسمالية والاستعمار في آن واحد لايصنع تأريخُ البشرية إلا جزءا من هذه البشرية،إذ ان الغرب كان يجهل أو يحتقر القوة المؤثرة الشرقية،في هذا المجال النمو الوحيد الواضح، هو نمو بؤس العالم، بؤس مادي في العالم الثالث، وبؤس روحي في الغرب" (١)
أما الأخری فهي:
"فمنذ عصر النهضة حُكم علی الإنسان في مجتمعاتنا الغربية بالعزلة والانفصال عن الآخرين بسبب الفردية التي مازال احتدامها يزيد منذ عصر الغزوات الاستعمارية وحتی عصر الانحطاط النهائي في حياة المجتمع المنعزل،وبسبب انتشار المنافسات الوحشية في الاقتصاد التجاري، حيث يقضي أقل الناس ضميرا علی أقلهم إمكانية في الدفاع عن نفسه،وبسبب تقنيات الطمع التي تشكل الدعاية والتسويق أقصی تعبير عنها،إذ تفرض احتياجات مصطنعة كبديل حقيقي لاشباع الرغبة والأنانية"(٢)
هكذا يری غارودي أثر النهضة والتقلبات الفكرية والاجتماعية التي رافقتها وتبعتها وانعكاسها علی شعوب العالم، وكيف تسببت بخلق صراعٍ عام بين أبناء البشر، فهناك صراع بين الغرب والشرق، وهناك صراع في الغرب نفسه، مما أدی الی انفصال وعزلة وتفكك داخل المجتمعات الغربية نفسها من جهة، وصراع وانفصال مع المجتمعات الشرقية من جهة أخری، ومن أكثر الموضوعات التي تم استغلالها وتوظيفها في هذا الصراع قضية المرأة، أعني المرأة العربية المسلمة؛ لأنها جزء من الأمة التي جرت عليها العلمانية وتطبيقاتها الويلات و الحروب والبؤس والفقد والأمراض وعمليات الإبادة، فمن المناداة بحقوق المرأة وحريتها في امتلاك جسدها، وتخليصها من التبعية،حتی تحويلها إلی صورة أو ديكور أو هامش بلا وعي ولا أرض صلبة تقف عليها، ولا جدار قوي تستند إليه!! شأنها شأن كل فئات المجتمع التي خدعتها العلمانية، والتي مازال يصفق لها مثقفو التدليس العلماني، ومازالوا لايعترفون بفشلها في أرضها، فضلا عن فشلها في العالم كله، الذي تقوده الأنظمة التي تتبناها!!
فمن حكم العالم خلال القرن الماضي؟ ومن تسبب بالحروب والسيطرة علی مقدرات البلدان وثرواتها المادية والبشرية؟ ومن سيحاسب هذه الأنظمة؟ ومن سيحاسب من حاول ومازال يحاول استيرادها لتغريب الإنسان المشرقي، وتغريب المرأة العربية والمسلمة؟
وماذا يريدون بعد ما وصل إليه العالم من مادية بحتة قائمة علی استغلال البشر واستعبادهم لخدمة الماكنة الرأسمالية؟ وهل الدين الإسلامي ـ اليوم ـ هو من يقود هذه الحروب علی الشعوب؟ وهل الدين من جعل المرأة سلعة رخيصة في كبری شركات التسويق والدعايات والأفلام الإباحية أو الأنظمة التي تنادي بالعلمانية والتي تحكم العالم؟
هل الإسلام يمتلك شركات التجميل العالمية وموادها؟ هل الإسلام يمتلك شركات الاتجار بالبشر(العمالة)؟
هل الإسلام يمتلك شبكة الانترنت العالمية والمواقع الالكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي التي تسيّر الحياة وفق خطط معينة؟
لماذا تحاول هذه الأنظمة أن تفرض رؤاها ومناهجها علی الشعوب الأخری؟ لماذا تسعی إلی تفكيك الكتل البشرية الشرقية المتراصة بدءا من الأسرة وصعودا الی المجتمع كله؟
ولماذا يصر بعض المثقفين علی استيراد نظريات ومناهج أثبتت فشلها، إن لم نقل فشلها في واقعها الذي نشأت فيه، فعلی أقل اعتبار نتحدث عن فشلها في عالمنا العربي والإسلامي!
لماذا هذا الاصرار علی تلقف الفضلات الفكرية والثقافية الغربية؟ لماذا نلجأ الی إعادة تدويرها وتصديرها إلی مجتمعاتنا، لنفرض عليها نسخة علمانية مشوهة، تشبه أكياس البلاستك السوداء التي تتم صناعتها من إعادة تدوير النفايات، ولايُنصح باستعمالها في التخزين والحفظ!! وإنما للتخلص من القمامة وحسب!!
الآن، الفيسبوك والتويتر والتيك توك والانستغرام والواتس اب ...الخ، وكل هذه التطبيقات وسائل لبث العلمانية المشوهة، وبإمكان أي متلق واع أو باحث موضوعي أن يرصد واقع المرأة الذي تريده هذه العلمانية من خلال هذه التطبيقات!!
فالشركات الكبری لمواد التجميل والمستشفيات الكبری للتجميل، وشركات العمالة، وشركات الإعلانات والتسويق والفاشن بلوغر والانفلونسر واليوتيوبر، كلها تعمل وفق السياقات التي روجت لها هذه الماكنة ومعاييرها المدمرة(التفاهة، الصراع، الانغماس في المادة، انعدام الحدود(فكل شيء يمكن قوله واعلانه) التعري واستعراض الجسد..الخ) أي كل ما ينافي الذوق الإنساني، وكل ما يخالف المنظومة الأخلاقية!!
ومع كل هذا يطمعون في المزيد والمزيد من التفكك والانحلال والاستغلال، فتكفلوا بخلق صراعٍ مع طبيعة الحياة، وسلوك المجتمع وهويته، فلا يكفون عن مهاجمة كل ما له علاقة بالدين،وكل ماله علاقة بالمنظومة القيمية العامة للشعوب العربية والإسلامية،مع إدراكهم أن مقولات العلمانية وتجريد الإنسان عن دينه، ومحاربة الجانب الروحي لديه،قد فشلت، فالدين حي وباق، والإله حي وباق،وضاع ما قاله نيتشه:"ألم تسمعوا جلبة حفاري القبور وهم يكفنون الإله؟ ألم تستنشق أنوفكم التعفن الإلهي؟ لقد مات الإله! لقد مات الإله! ونحن الذين قتلناه"
وفشلت مقولة ماركس"الدين زفرة الإنسان المسحوق، روح عالم لا قلب له، كما أنه روح الظروف الاجتماعية التي طرد منها الروح، إنه أفيون الشعب" فلا يمكن للإنسان أن يعيش مُطفأ الروح، ولايمكن أن يكون ماديا بحتا، ولايمكن أن يضمن النظام الرأسمالي أن لايتم استعمال التقدم التكنولوجي الرهيب في العودة الی الدين والبحث عما يغذي الروح في شتی بقاع الأرض، لهذا تشهد العلمانية الآن بداية مرحلة الغروب والأفول، وثمة تحولات فكرية جديدة، تدعو الی نبذ كل ما أرسته العلمانية والعودة الی البيت الكبير والأسرة الواحدة،ونبذ العزلة والانفصال، وترسيخ المفاهيم الدينية والعقدية(٣)
ومع ذلك ما زال مثقفو التدليس العلماني في العالم العربي والإسلامي يزيفون الحقائق، ويصرون علی معاداة الدين والبيئة التي تعشقت به وذابت به، مازالوا مصرين علی استيراد الفضلات الثقافية والفكرية الغربية، ومازالوا بلا موضوعية وتقييم موضوعي منهجي ينظرون بعين الانبهار الی العالم الغربي، مازلوا يعيشون حالة التغافل عن واقع الإنسان في بلداننا وماجرت عليه الماكنة الغربية الرأسمالية من ويلات!!
بينما نجد الفيلسوف الفرنسي "روجيه غارودي"قد تحدث بعين ثاقبة، وموضوعية حاضرة عن الغرب وعلاقته بالشرق، عن المرأة وواقعها في بعض البلدان الإسلامية، فمثلا يقول:"الديمقراطية عالم الغربيين فقط. إعلان حقوق الإنسان كذبة؛ لأنه ينص على مساواة الناس أي يتساوى الملياردير والفقير في عقوبة السرقة" وكذلك يحذر العرب والمسلمين من تقليد الغرب والانبهار بهم فيقول:"يجب عليهم أن لا يعزلوا أنفسهم ويتجنبوا قبول الحضارة الغربية، إن ذلك يمثل فشلاً ذريعاً، لذلك عليهم أن لا يتورطوا في أمراض الغربيين؛ ولكن عليهم السعي لتكييف المبادئ الرئيسية للشريعة مع الوضع الذي يعيشونه"(٤) وهذا ما يصطلح عليه بالتحديث الإسلامي أي مواكبة التطبيق الإسلامي لتطور الحياة ومستجداتها ومشكلاتها.
ونجده أيضا يتحدث عن واقع المرأة في الجمهورية الإسلامية قائلا: "زرت إيران عدة مرات قبل الثورة وبعدها،كنت متحمساً لمكانة المرأة في المجتمع، اليوم لدى الإيرانيين إنجاز عظيم ، فلم يمنع الحجاب المرأة من التطور والرقي واحتلال المناصب الراقية، في جامعة بولي تكنيك تجد نصف الأساتذة من النساء، في حين لا تجد في فرنسا سوى سبعة نساء في جامعة مماثلة، كما أن بعض النساء يرأسن أقساماً وفروعاً علمية دقيقة"(٥) فلاحظ مدی تحرر"غارودي" كباحث موضوعي وعالم يتقصی الحقائق بتجرد، بخلاف تبعية مثقفي التدليس العلماني الذين يحرضون الشباب ليل نهار ضد دينهم وهويتهم الإسلامية ومنظومتهم القيمية، والغريب أنك لاتشخص أي فرق بين طروحاتهم؛ فالأسلوب واحد والموضوع واحد، والتهجم علی الآخر المخالف لهم واحد، ومحاربة الآخر الذي يعتز بدينه واحدة، فبينما هم يطعنون بكل شيء، ويهاجمون الدين بكل ما لديهم، يرون مقولات العلمانية وشخوصها مسلمات ويرفضون حتی مناقشتها، فما بالك بقضية الاعتراف بفشلها!!
وهنا نعود مرة أخری لنؤكد قضية مهمة بالنسبة للمرأة العربية والمسلمة وهي التأسيس لتمكين آمنٍ بعيدا عن التمكين الفاسد أو المزيف الذي يتم الترويج له!!
بعيدا عن تمكين العلمانية المشوه الذي يراد فرضه علی المرأة العربية والمسلمة بحجة التحرر والمساواة ونيل الحقوق!! بعيدا عن الحرب التي يشنونها علی تركيب المرأة البايولوجي وغرائزها وعواطفها وكيانها الإنساني الذي خلقها الله به.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
١- الإسلام دين المستقبل، روجيه غارودي، ترجمة:عبد المجيد بارودي:٢١
٢-المصدر نفسه:٦٦-٦٧
٣- ينظر: عودة الأديان وتحولات الإيمان في الغرب،حسن سرات،
٤- حوار مع مفكرين أوربيين في الثقافة والعقائد والمجتمعات، د.صلاح عبد الرزاق: ٢٨
المصدر نفسه:٢
ــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha