دراسات

القيم العليا لمجتمع صالح (١)


محمد عبد الجبار الشبوط ||

 

مقدمة

احب ان اوضّح للقاريء الكريم انني كتبت هذه السلسلة من المقالات من وحي الاحداث التي عصفت بالعراق خلال الايام القليلة الماضية. وكما يعرف قرّائي الدائمون فاني لا احب البقاء عند سطح الاحداث بل احب ان اسبر غورها واغطس الى اعماقها. وكشف لي هذا الطريق منذ زمن ليس بالقليل ان علة مجتمعنا الاساسية هي الخلل الحاد في المركب الحضاري لهذا المجتمع والتمزق واسع النطاق الذي حصل في منظومة قيمه العليا الحافة بعناصر المركب الحضاري عبر سنوات بل قرون من التخلف الحضاري حتى وصلنا الى الحالة الراهنة المعقدة. احداث الايام القليلة الماضية قام بها افراد من المجتمع على درجات مختلفة من الوعي والثقافة.  بعضهم تابعون وبعضهم متبوعون، بعضهم قادة وبعضهم جمهور. وكلهم يتحملون المسؤولية بدرجات مختلفة. لكنهم كلهم شركاء وينطبق على الجميع قوله تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ. إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ.  وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ".

لهذا، فان الحل الجذري لازمة مجتمعنا الحضارية العامة انما يكمن في اصلاح منظومة القيم العليا او اعادة بنائها لانتاج فرد صالح، ومجتمع صالح، ودولة صالحة.

توجد في علم الاجتماع بحوث كثيرة تحت عنوان norms و values و attitudes يمكن للقراء العودة اليها. لكني اكتفي باستعارة الشرح المختصر التالي الذي يقول ان القواعد والقيم هي جوانب مهمة من الثقافة.  المعيار هو دليل محدد للسلوك في مواقف معينة.  غالبًا ما نكون غير مدركين للمعايير التي توجه سلوكنا.  ولكن غالبًا ما نكون على دراية بالمعايير عند كسرها.  القواعد ضرورية للمجتمع البشري.  إنها توجه سلوكنا وتضبطه وتساعدنا على فهم سلوك الآخرين والتنبؤ به.  اما القيم فهي أقل تحديدًا من القواعد.  انها مؤشرات عامة للسلوك.  القيمة هي الاعتقاد بأن شيئًا ما مهم وجدير بالاهتمام، كالحياة والحرية والعدالة الخ.  يتم ترجمة القيمة إلى سلوك من خلال مجموعة من المعايير.  يرى بعض علماء الاجتماع أن القيم المشتركة ضرورية لرفاهية المجتمع.  إنها تنتج التضامن الاجتماعي.  بدون القيم المشتركة ، سيتفرق الناس في اتجاهات مختلفة.  و قد تكون النتيجة اضطرابًا وصراعًا. (Sociology in Focus).

و تشير القواعد إلى السلوك والمواقف التي تعتبر طبيعية ، في حين أن القيم هي تلك الأشياء التي يعتبرها الناس مهمة بالنسبة لهم.  يعتقد الوظيفيون أن جميع أفراد المجتمع يتم دمجهم اجتماعيًا في هذه المعايير والقيم ، أولاً من خلال الأسرة وبعد ذلك من خلال مؤسسات مثل التعليم والإعلام والدين.  في هذا التنشئة الاجتماعية الثانوية يتعلم الناس القيم العالمية بدلاً من تلك القيم الخاصة لأسرهم أو مجتمعهم.

ومن الضروري ان نتذكر ونميز في عناوين القيم ومفرداتها بين مفهوم او تعريف القيمة محل البحث، ومصداقها، والقوانين او الاحكام المتعلقة بها. فالمفهوم ثابت، على عكس المصاديق والاحكام فانها قد تكون متغيرة بتغير الزمان والمكان، ان الاحكام الشرعية والقوانين الوضعية تستهدف تحقيق القيم وتجسيدها. انها تمثل الجانب التنفيذي للقيم.

وازعم ان سلسلة المقالات هذه سوف تقدم خريطة لمنظومة القيم كفيلة باصلاح الفرد والمجتمع والدولة في العراق لو اصبحت هي المحتوى المجمع عليه للعقل العام، حسب مصطلحات جون راولز، او حسب تعبير القران "ما بانفسهم" في قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ".

وسوف اقدم في هذه السلسلة من المقالات مجموعة لعدد من عناوين القيم هي: المثل الاعلى، الدين،  الحياة، الانسان، الحرية، العدل، الشورى والنقاش العام، الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، سيادة القانون، التعايش السلمي، العمل، المرأة، العلم، حسن الجوار. وقد تختلف هذه القيم فيما بينها من حيث كونها اساسية او فرعية، لكنها بمجموعها تؤلف كلًا مترابطاً. تصبح هذه العناوين قيما اذا اعتقد الناس باهميتها وتصرفوا على هذا الاساس.

ومجموعة هذه القيم ( وهناك قيم اخرى بلا شك) تؤدي الى اقامة مجتمع صالح لو اشتغلت كلها معا، والمجتمع الصالح هو مجموعة مواطنين فعالين صالحين تربط بينهم، من جهة، وبينهم وبين الطبيعة من جهة ثانية، شبكة علاقات مبنية على اساس منظومة القيم العليا الصالحة نفسها.

والمجتمع الصالح هو الذي يصنع و يقيم دولته الصالحة وليس العكس. فالدولة ليست كيانا خارجيا، وان كانت ذات شخصية قانونية مستقلة، لكنها في حقيقة الامر عبارة عن الافراد الذين يقطنون ارضا معينة على نحو دائم ومستقر،  وهم في حالة اجتماع وتنظيم سياسي وقانوني ومؤسساتي. الدولة هي المجتمع المستقر في ارض وحكم. وبالتالي فان صلاح الدولة، او فسادها، هو محصلة صلاح المجتمع او فساده.

ـــــــــ

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك