أ.دعبدالحسن الجبرة الله ||
تميز الخطاب السياسي الشيعي منذ أواسط خمسينيات القرن الماضي، على أثر تأسيس تنظيمات الاسلام السياسي الحركي على يد الشهيد السيد محمد باقر الصدر(قدس) وحتى انقلاب عام 1968م واستيلاء البعث على مقاليد السلطة في العراق ، بديناميكة ثابتة تمثلت على المستوى النظري بمحاولة توأمة السياسة والدين وفق نظرية الشورى الإسلامية كنظام سياسي واقتصادي واجتماعي شامل لحياة الأمة، وبالتالي انتقل هذاالخطاب السياسي من مساحته المناطقية الضيقة الى الفضاء الإسلامي الواسع، ومن الطبيعي أن تواجه هذه الدعوة تحديات كبيرة من قبل التيارات السياسية والفكرية ذات الثقل الشعبي الهائل وقتذاك ( الحركات اليسارية والقومية)، وكان الغالب على تلك الصراعات السمة الفكرية والجدلية بين أنصار كلا المعسكرين الاسلامي – اليساري أو المعسكر القومي – اليساري ومحاولات اثبات الذات، مع بعض الاستثناءات بتحوله الى دموي بين الفريقين القومي و اليساري في عهد حكومة الزعيم عبدالكريم قاسم الشعبية (1958-1963م) وحكومة التيار القومي في عهد عبدالسلام عارف(1963-1965م)، وفي ظل هذه الصراعات بين هذين التيارين، كان التيار الاسلامي يقف على الحياد واتخذ موقف المتفرج دون أن يزج بنفسه في أتون ذلك الصراع، والمبرر لموقفه هذا أنه كان مكشوف الظهر مقارنة" بالمعسكر اليساري المدعوم من قبل الاشتراكية السوفيتية والمعسكر القومي ويقف خلفه نظام جمال عبدالناصر في مصر الذي أجهز على ماتبقى من قادة التيار الاسلامي باعدام مرشد الاخوان المسلمين بمصر سيد قطب عام 1966م وانفرد بزعامة التيار القومي العربي.
وكان التحول الأول في الخطاب السياسي الشيعي بعد استيلاء البعث على السلطة عام 1968م بتبنيه مبدأ المعارضة السلبية للنظام البعثي، رغم سعي تلك السلطة لاحتواء التيار الاسلامي وضمه الى جانبه بذريعة مواجهة الخطر اليساري الشيوعي العدو اللدود للتيارين الاسلامي والقومي، لكن تلك المحاولات باءت بالفشل الذريع، ومن أمثلة تلك المحاولات استغلال القوميين لفتوى مرجع الطائفة السيد محسن الحكيم (قدس )ضد الشيوعية وتجدد ترويجها بكثافة في الأسواق والمقاهي والقرى والأرياف والمدن، رغم أنها صدرت قبل استلامهم للحكم، مما ادى ذلك الى انحسار وانكفاء المد اليساري وتراجعه الى حد كبير.
وشهد الخطاب الشيعي تحولا" هاما" وخطيرا" بعد أن لاح في الأفق بشائر انتصار الثورة الاسلامية في ايران منذ عام 1977 وحتى اعلان النظام الاسلامي فيها عام 1979م، وهذا هو التحول الثاني، وقد تميز الخطاب بالحدية والتحدي للنظام البعثي القمعي من جهة وتبني خيار المقاومة المسلحة واستخدام القوة لتغيير النظام السياسي الى نظام اسلامي على غرار نظام الجمهورية الاسلامية في ايران بعد صدور فتوى السيد محمد باقر الصدر(قدس) بوجوب رفع السلاح بوجه النظام الحاكم، مما زاد من قساوة وشراسة النظام البعثي تجاه الاسلاميين وقام بحملات اعدام واسعة بحق ابناء التيار الاسلامي، وأخيرا"توجَ جرائمة بارتكابه جريمة العصر باعدام مفجر الثورة الاسلامية في العراق الشهيد السيد محمد باقر الصدر واخته العلوية الطاهرة (بنت الهدى) عام 1980م، وبدخول العقد الثامن من القرن الماضي، تبنى التيار الاسلامي الشيعي طروحات الشهيد الصدر الأول بشرعية المقاومة المسلحة ببعديها النظري والتطبيقي العملي لاسقاط النظام البعثي، وإقامة الحكومة الاسلامية المنشودة، ولسنا هنا بصدد ايراد الاختلافات الاجتهادية بين اطراف التيار الاسلامي الشيعي في كيفية وآليات ستراتيجية المواجهة بقدر التركيز على مجمل النشاط السياسي للحركة الاسلامية واهدافها المعلنة.
وعلى الرغم من انشغال الحركة الاسلامية الشيعية بنشاطها السياسي والعسكري في مقاومة النظام البعثي لأكثر من 25 عام، فأن الخطاب السياسي الشيعي العراقي لم يهمل قضايا الأمة الاسلامية الكبرى وأهمها الوقوف الى جانب القضية الفلسطينية، واهتمامه بصيرورة قضايا المحيط العربي ومحاولات قادة الحراك الشيعي الاسلامي مد جسور التفاهم مع الدول العربية ومنها سوريا والكويت، والتنديد بالاعتداءات الصهيونية المتكررة على لبنان عام 1982م ومحاولة استثمار تلك التفاهمات في قطع الصلة بين النظام البعثي في العراق والمحيط العربي، وزاد من عمق الصلة بين المعارضة العراقية وجزء من المحيط العربي، ارتكاب النظام الصدامي حماقته الثانية بغزو الكويت عام 1990م وعزله سياسيا" عن محيطه العربي والدولي بقرارات صادرة من مجلس الأمن الدولي.
وتتصاعد وتيرة الاحداث بعد سقوط النظام الصدامي عام 2003م على يد التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها بعد أن تحول الى هيكل خاوي لايقوى على الصمود والوقوف على رجليه لأيام، وانهارت بسقوطه كافة مقومات الدولة المتهرئة أصلا" بفعل سياساته الحمقاء، وتحولت احزاب المعارضة العراقية في الخارج من حالة المعارضة الى حالة مسك زمام الحكم وان كان بمجلس صوري أكثر مما هو حقيقي، وتميز الخطاب الشيعي ظاهريا" في تلك المرحلة بهويته الوطنية والاسلامية وتأكيده على العامل الوحدوي بين مكونات الشعب العراقي الطائفية والمذهبية والقومية وفق أطار الدولة الدستورية التي تضمن حق المكونات ومن بينها المكون الشيعي الأكبر، ومراعاة مركزية توزيع الثروة على جميع العراقيين حسب الكثافة السكانية لكل محافظات العراق من شماله الى جنوبه، لكنه توخى جانب الحيطة والحذر من مخالب المشروع الامريكي في العراق الرامي الى تفتيت عرى الوحدة الوطنية المتهالكة اصلا"
لكن مايميز هذا الخطاب في هذه المرحلة أنه لم يكن خطابا" واحدا" يمثل وجهة نظر التيارات السياسية الشيعية الاسلامية كافة، كما كان في مرحلته السابقة أيام حكم النظام البعثي، بل تعددت تلك الخطابات حسب تنوع اتجاهات التيارات السياسية الشيعية العاملة في الساحة الشيعية، وشابها التقاطع والاختلاف سواء في المنطلقات السياسية أو في الغايات، مما عكس تبلور أكثر من صورة وهوية للخطاب الشيعي، مع محاولة الحفاظ على الهوية العقائدية ولو شكليا"، ولم تجد خطابات المرجعية الدينية لها صدى في تلك الاوساط الحزبية الشيعية إلا بمقدار خشيتها من الضغط الشعبي الهائل، فمالت الى التسترصوريا" بغطاء المرجعية.
وتشكل رؤية الشهيد السيد محمد باقر الحكيم(قدس) لمستقبل النظام السياسي العراق رؤية سياسية ناضجة واستشرافية جادة وحقيقية وسابقة لعصرها بعقود كثيرة من الزمن بطرحه مشروع (الفدرالية الادارية ) وهو لايزال في مرحلة المعارضة للنظام الحكم في العراق وقتذاك، وتجدد تلك الدعوة عام 2005م على لسان خلفه السيد عبدالعزيز الحكيم (قدس) رئيس المجلس الاسلامي العراقي ورئيس الائتلاف الشيعي العراق حينذاك بطرحه لمشروع ( الأقلمة )، غير ان تلك الخطابات والمشاريع السياسية اصطدمت ليس بجدار المشروع السني وحسب، بل عارضته اغلب الاحزاب والتيارات السياسية الشيعية الكبرى الفاعلة في الساحة والاحزاب العلمانية والشيوعية تحت ذريعة ان المشروع مدعاة لخطر تقسيم العراق، ونرى أن هذه المبررات لاوجود لمصاديق لها على الأرض، بل انها انطلقت من هواجس سياسية وتحت مؤثرات الصراعات السياسية التي سادت تلك القوى في مرحلة المعارضة، وزاد الطين بلَة بروز تحالفات سياسية بين تيارات متناقضة فكريا" وسياسيا" ضد مشروع الفدرلة أو الأقلمة، مما أدت تلك المواقف الى تراجع دعاة هذا المشروع السياسي واضمحلاله سياسيا".
واليوم وبعد مرور مايقارب 19 عام من تغيير النظام السابق، تشهد الساحة العراقية تشرذما" سياسيا" واضحا"، وتعذرالكشف والتنقيب عن مشروع سياسي واضح المعالم والتصورات بشكل عام، ماعدا وجود بصيص لمشروع سياسي كوردي جامع لخطوط عامة بالسعي الجاد والحثيث للإنفصال عن جسد العراق الموحد- على حد زعم السياسيين – وتحقيق طموح الشعب الكوردي بتكوين دولته المستقلة، أما المشروع السني فقد شهد هو الآخر تحولات عدة، وبعدما كانت الخطاب السياسي الحزبي بشقيه الاسلامي والعلماني هو السائد، فقد تعثر هو الآخر واصطدم بالمشروع السياسي المبني على أساس القبلية والعشائرية وتسيد الأخير للساحة السنية وتراجع الأول وتميعه في أتون الصراعات السياسية السنية الحادة، ومن الصعب جدا" تبلور مشروع سياسي سني حقيقي في المستقبل القريب، اذ أن ارتباط قادة الحراك السني وخضوعهم كليا" للمحيط الاقليمي الخارجي السني، قد القى بظلاله على ضبابية الموقف والخطاب السياسي، ونجده يتأرجح بين الخطاب الشمولي الغامض والمشوه والخطاب البراغماتي الساعي لمسك أدوات السلطة الشاملة واعادة واحياء الظروف السياسية ماقبل 2003م.
أما الخطاب السياسي الشيعي فقد بقي ظاهريا" ممسكا" بعصا وهم الهوية الوطنية العراقية المخادعة، وبطابع الشعارات الانتخابية أكثر مما هو خطاب سياسي ذات بعد حيوي وعقلاني وواقعي، فقد تاه في متاهات الوجودية الطوباوية ، خطابا" يتصف بالترهل السياسي والنزعة السياسية الشعبوية الخالي من الرؤى والبرامج الواقعية والقادرة على حل المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصاديه، وتاه في غياهب جب الخصومات السياسية الضيقة وزادها تعقيدا" وخطورة" تفتت اللحمة الاجتماعية الشيعية واختزال النسيج الاجتماعي الشيعي تبعا" لتلك الصراعات السياسية.
وفي الختام فأننا نجد حاليا" من الصعوبة بمكان تصور وجود برنامج وخطاب سياسي قادر على لملمة شتات مكونات العراق المبعثرة سياسيا" وعقائديا" ومذهبيا" وقوميا" وطائفيا"، فالجميع ينادي بالوحدة ومبدأ الشراكة والمشاركة والتوافقية وغيرها من المفردات السياسية الجامعة نظريا"، لكن الجميع بذات الوقت يقفز قفزة القرد والكنغر باتجاه المناطقية والمكوناتية وكأن البلد ماهو الا شركة مساهمة ذات اسهم تباع وتشترى في بورصة وول ستريت.
وبخسارة الشيعة لمشروعي الفدرلة والأقلمة، فأن حالهم سيبقى كحال البعير يحمل ذهبا" ويأكل شوكا"، وينزف دما" من أجل وطنا" لامقام لهم فيه، ومحرم عليهم المبيت فيه، فثروات الجنوب، تٌنهب تحت ستار الوحدة واللحمة الوطنية الزائفة وكذبة العراق الموحد، وموارد تستنزف كل يوم تحت يافطة الاستثمار المخادع، ولاعجب في فشل الاصوات الناهضة والمخلصة لجنوبيتها واهوارها ودماء ابنائها الطاهرة، في استنهاض الجموع البشرية المدقعة في الفقر بعد أن تحولت الى كتل بشرية مؤدلجة سياسيا" لهذا الطرف الشيعي او ذاك، أو مؤدلجة بيافطة الموروث الاجتماعي، مما يزيد الوضع أكثر تعقيدا".
وتأسيسا" على ماتقدم فلا بوادر حل في الأفق القريب بعد أن بانت عورات النظام السياسي مابعد 2003 وتهالكت ادواته وأسسه ، إلا في ببروز حراك اجتماعي ذات طابع وخطاب سياسي يكون قادرا" على لملمة شتات الفئات القبلية والنخبوية الاجتماعية ليرسم من جديد ملامح مشروع الأقلمة المتعددة في العراق وليس مشروع الأقاليم الثلاث، فما قبل 2005 ليس كما بعده، وأن يكون هذا الحراك قادرا" على بناء ستراتيجية تقوم على أساس فلسفة اقتصادية تؤسس لتعدد الموارد لكل أقليم، ونبذ مركزية الثروات في أطار عراقا" ديمقراطيا" موحدا" سياسيا" ومتعدد الاقطاب الاقتصادية، ويراعي القيم والثوابت الاسلامية، بما يشابه نظام اقليم كورستان العراق، وومنح حق تقرير المصير للمكونات الاجتماعية القاطنة في المناطق المختلطة أثنيا" وطائفيا" بين الانضمام لهذا الإقليم أو ذاك في اطار اجراء استفتاءات شعبية حقيقية بعيدا" عن المؤثرات الاقليمية والدولية
الناصرية 26 حزيران 2022م
https://telegram.me/buratha