الدكتور علي زناد كلش البيضاني ||
كثيرة هي الدعوات المُنادية لقراءة باصرة وفاحصة للتراث وإبراز معطياته وفق نسقيّة تنطلق من أُسس وركائز تتخذ من الماضي الوليد الأول والأوحد لإصدار أحكام ومتبنيات تتماشى مع المستجد الحياتي ، لكن هل تُعدّ هذه القراءة كاشفة للأسرار الجمالية والاسلوبية التي اندست في النصوص تارة وتوارت خلفها تارة أخرى ؟ وهل نُسلّم لقراءة واحدة أم لقراءات متعددة ؟ وأي القراءات هي الأنضج والأمثل ؟ وما المعيار والمقياس الذي يجعلنا أن نصدر أحكام على هذه القراءة أنها الأمثل دون غيرها ؟
أسئلة مُلحّة تفرض نفسها على المؤلف والقارئ ( المُتلقي ) على حدً سواء ،
لاشك أن القراءة القائمة على الممازجة في المركب التاريخي بين الأصالة والمعاصرة تُشكّل مدخلاً للوقوف على تخوم قراءة واعية للتراث ، ولا نعني بالأصالة هنا الانقطاع والعزلة والانغلاق الفكري وإنما الانطلاق من قواعد وأُسس ثابتة وقواعد واضحة تشكل المنطق الداخلي الرابط بين هذه القراءة ، إذ لا يمكن اجتزاء النص وعزله عن واقعه الحاضر لأن إسقاطات الواقع المُعاش تلقي بظلالها على مضمون النص وتزيحه أحيانا جبريّاً نحو اتجاه معين.
فضلاً عن عدم أمكانية فصل النص وبتره عن حاضنته الأولى ( الأصالة ) المؤسسة له ، لذا فأن القراءات وأن تعددت من قراءة التماهي إلى الانطباعية ، الشارحة ، الاسقاطية ، إلى الحوارية كلها تُصنّف من موجهات القراءة التي يقف ورائها منهج وإيديولوجبا واتجاه نقدي معين ، تحاول أما تحييدها أو السير بها نحو رؤية وفكرة مسبقة قائمة على تصورات ذهنية انتجتها أقلام مؤدلجة.
وهذا الأمر يقودنا إلى استيضاح الدور المهم الذي يتبارى فيه الوعي القديم ( المنغلق ) والوعي الجديد ( المنفلت ) ، فالأول يستند في متبنياتهِ إلى جملة من التبريرات الداعية للتمسك بأهداب الماضي ليؤسس لرؤية مفادها عدميّة التجاوز والتخطي لحدود الماضي.
وبين الوعي الثاني الذي يتخذ من فوضى المصطلحات من خلال استعارة الألفاظ دون وعي أو بوعي خبيث أحياناً ليستهدف تقويض البنى النصية الثابتة الثابت الإسلامي وزعزتها ، وبين هذا وذاك يكون المُتلقي القاصر في تفكيك النصوص واستنطاقها مشاركاً في جريمة إماتة النص هو الآخر ، وهذا المتلقي يبقى يرزح تحت الذائقة الاجتماعية الضاغطة عليه أو صدمة الاستجابة الناتجة من حضور الوعي بالنص لكنه مقيّد بغياب الإرادة أو من خلال ارتسام تخيلات خاطئة في منظومة التصورات الذهنية له كلها تسهم في سلب المتلقي المشاركة الحقيقية والفاعلة في قراءة النص قراءة تستجيب لمتطلبات الحاضر دون الانسلاخ من الماضي ، فالمناهج المتعددة لقراءة النص وسبل الوصول لقصديّة المؤلف من خلال النقد النصي ( الذي يهتم بما هو داخل النص ).
والنقد السياقي ( الذي يهتم بما هو خارج النص ) نستطيع القول إنها غائبة أو مُغيّبة بالأحرى في أدبيات اسكتشاف الحقائق في حفريات النص ، عند ذلك ستكون هذه القراءة تُحقّل ضمن خانة الدعوة إلى قراءة النص ككيان مستقل في ذاته ليكون شكل من أشكال الفهم الإنساني الخاضع لمستويات عقلية متفاوتة ، وهذا النوع من القراءة للنصوص تُجبر الناقد أن يحلل الخصائص والبنى المرتبطة والمكونة للنص دون الرجوع إلى نية المؤلف.
ويصح عليها أن نوظف قول ( شكلوفسكي ) في هذا الإطار عندما قال " أن غرض الفن هو نقل الإحساس بالأشياء كما تدرك وليس كما تعرف " بمعنى أن تكون خاضعة لمزاج وذائقة المُشتغل بالنص بعد أن يتركه مؤلفه سائحاً في جنبات القراءة المتعددة ، لذا أصبحت الدعوة إلى إنتاج وعي جديد بالتراث بلا أوهام أو تخيلات مع التأكيد بأن هذه التخيلات ليس لها أي نصيب من الصحة فنحتاج أذن لقراءة واعية للتراث بحيث أصبحت ضرورة تاريخية ملحة.
فالتراث بمختلف جوانبه ومستوياته جزء من مقوماتنا الحياتية والوجودية والحضارية وعلاقته بواقعنا علاقة امتداد واتصال لا انغلاق وانفصال والتفاعل الإيجابي مع التراث لا يمكن التنكر له أطلاقاً و تقديسه أطلاقاً فلكل جانب له محدداته وضوابطه.