د. علي المؤمن ||
المتغير في الفكر الإسلامي يُخضع الواقع الجديد للثابت، فلا ينسخ الثابت ولا ينسخ الوعي السابق به، بل إنه يجدد هذا الوعي، ليقتحم بالثابت تحولات الزمان والمكان بكل أبعادها، ويحتويها احتواءً حقيقياً، أي إنه يقوم هنا بمهمتي هدم وبناء:
1 - تحطيم الجمود على وعي الثابت، وهو الجمود الذي يعطّل فاعلية الثابت ودوره، ويؤدي إلى قطع صلات الشريعة بالحياة. مع الالتفات إلى أن عملية الهدم لا تستهدف ذلك الوعي بنفسه، بل تستهدف الجمود عليه. فوعي الأسلاف كان تجديداً وتغييراً في زمانه، وهو مادة غزيرة للوعي القائم، لدراستها وتحليلها وتنظيمها.
2 - تجديد الوعي بالعصر والمستقبل ومتطلباتهما؛ لإعادة ربط الحياة بالشريعة، وإنهاء عملية الاستلاب الحضاري.
ومن جانب آخر، سيعمل التغيير على تنقية ما طرأ على الفكر الإسلامي من شوائب وانحرافات في التصور والفهم، والعودة إلى الثوابت، لتصحيح الوعي بها - في هذه المجالات - والتمّسك بحبلها، والالتصاق بها لضمان الحاضر والمستقبل.
وينبغي هنا التأكيد الى أن العودة إلى الثوابت (القرآن الكريم والسنّة الشريفة)، لا تعني العودة إلى الماضي، ولا تعني «السلفية» بمفهومها الاصطلاحي، فالثوابت ليست جزءاً من الماضي، أو جزءاً من التراث الإسلامي، بل هي أسس ثابتة لشكل الحياة الإسلامية في الماضي والحاضر والمستقبل. فالعودة هنا ليست عودة بالمنظور الزمني، بل بمنظور استئناف عملية الأخذ المتكامل من الثوابت. أما نزعة التمسك بالماضي والفهم الموروث (أو الماضوية حسب اصطلاح التغريب الحديث) والنزعة السلفية، فتعنيان التمسك بوعي الماضي وبوعي السلف للثابت وللأصول؛ الوعي بكل أشكاله وأبعاده، وليس التمسك بالأصول أو الثابت وحسب. وهذا النوع من الجمود على الوعي من شأنه فصل الثابت عن واقع البشرية.
ولعل من المناسب أن نذكر بأن مصطلح «السلفية» الذي ترجمه إلى الانجليزية أحد الكتّاب المصريين في بداية الثمانينات إلى مصطلح «الأصولية» (Fundamentalism)، لا يرادف معنى الأصولية في الفكر الإسلامي، فإذا كان المراد من الأصولية العودة إلى الأصول، وهي القرآن الكريم والسنة الشريفة، كما يفهم المسلمون ذلك، فإن السلفية تعني العودة إلى هذه الأصول أيضاً، ولكن على أساس فهم السلف لها، وليس على أساس فهم متجدد.
والتجديد الذي يعبّر عن فهم جديد للأصول، ليس تجديداً للحاضر والمستقبل، ولا إلغاءً لفهم السلف الصالح، بل هو تجديد للحاضر فقط، في حين سيكون للمستقبل تجديده الذي يعيه أبناؤه، أما فهم السلف فهو تجديد وإبداع في الماضي، وهو نقطة الانطلاق لتجديد الحاضر؛ يبدأ من حيث انتهى الأسلاف، وتجديد المستقبل يبدأ من حيث انتهينا، فوعي المسلمين متصل ومتواصل ومتراكم. وهذا جزء من قانون «الوراثة الحضارية».
وعموماً فإن التجديد الذي يتضمّن هذا الشكل من التغيير، يساهم في إبقاء الثوابت مقدسة في وعي المسلمين، لأنه سيركّز القناعة بقدرة الثوابت على استيعاب العصر وتلبية حاجاته. في حين أن الإصرار على التزام وعي المفكرين والفقهاء السابقين، وهو وعي روعيت في معظمه حاجات العصر السابقة؛ سيسلخ تلك القداسة عن أذهان بعض المسلمين، على اعتبار أن الثوابت لم تقدم لهم إجابات وافية على تساؤلاتهم!
https://telegram.me/buratha