د. علي المؤمن ||
هكذا وصف الإمام الصادق شيعة آل البيت: ((شيعتنا خلقوا من فاضل طينتنا وعجنوا بماء ولايتنا))، ولا جدال أن شيعة العراق هم المصداق الأبرز لهذا الوصف. لا أقول هذا لأنهم أهلي وقومي وعشيرتي، أو لأنهم أبناء وطني ووطن آبائي وأجدادي؛ فعند الحديث عن الدين والمذهب تسقط العواطف والشعارات والعصبويات الأرضية بكل أنواعها، ويعلو صوت العقيدة والشريعة ومسلك الدنيا الى الآخرة؛ بل لأن شيعة العراق مثال الصمود بوجه الاجتثاث الوجودي، والتضحية من أجل المعتقد، والعض على الهوية الدينية المذهبية، منذ ١٣٧٠ عاماً وحتى اللحظة؛ فليس الحديث يختص بحاضرهم وحسب؛ بل بماضيهم المشرق بالعطاء والانجاز، والذي لولاه لما بقي التشيع شامخاً أصيلاً في العراق والجوار العربي.
الوجود الاجتماعي الأصيل لشيعة آل البيت؛ ظل مقموعاً مُحارَباً بقوة من حكام الداخل والجوار الطائفي والاحتلال، رغم أنهم الأكثرية السكانية في الوطن، لذلك؛ ظهرت مقاومتهم عاجلة، من قلب مجتمعهم وصلبه، منذ ثورات التوابين والمختار والعلويين، وحتى الثورات والانتفاضات والمواجهات ضد العثمانيين والوهابيين، ثم الانجليز ثم البعث، وصولاً الى امريكا والقاعدة وداعش والسعودية... الى آخر القائمة الإجرامية السوداء.
أتعلمون لماذا لم ينجح الخصوم الطائفيين باجتثاث التشيع وجودياً في العراق وتحويله الى بلد سني طيلة ١٣٧٠ عاماً من الحرب الشعواء؟، كما حصل في المغرب بعد الأدارسة، ومصر بعد الفاطميين، والشام وشمال العراق بعد الحمدانيين؟! السبب يعود الى المقاومة الصلبة لشيعة العراق، وثوراتهم وانتفاضاتهم المجلجلة، وصمودهم الأسطوري بوجه كل حملات الاجتثاث الوجودي والاستحالة المذهبية التي قادها الحكام الطائفيون المجرمون، من عبيد الله بن زياد وحتى صدام حسين؛ إذ لم يصمد ويقاوم ويُذبح مجتمع في العالم، كما صمد شيعة العراق وقاوموا وذُبحوا، دون أن يستسلموا أويغيروا هويتهم. وفضل ذلك يعود الى مقاومتهم الأسطورية على مدون قرون سوداء مظلمة. فقد سقطت كل بلدان الشيعة واحدة تلو الأخرى على يد بني أمية ونور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي وبني عثمان، من المغرب وتونس وليبيا ومصر والسودان، وحتى لبنان وسوريا والاردن وفلسطين والحجاز وغيرها؛ إلّا العراق؛ فقد بقي شامخاً أبياً شيعياً، رغم أنوف كل الطائفيين والمحتلين.
وبالتالي؛ فمقاومتهم الحالية، هي حلقة من سلسلة مقاوماتهم التي استمرت بشموخ طيلة ١٣٧٠ سنة، ولولاها لاندثر التشيع في العراق منذ قرون، ولولاها لعاد شيعة العراق لاجئين في الهند وايران والقوقاز وكل بقاع الدنيا، كما بدؤا تاريخهم قبل قرون وحتى هذه اللحظة. هذه المقاومة الشيعية اليوم، بكل تفاصيلها ومرجعياتها الصدرية والخامنئية والسيستانية؛ هي التي حمت العراق، وشعبه وأرضه وعرضه من الوحشية التكفيرية، ومن استقرار الاحتلال واستمراره. صحيح أن إنجازهم هو لكل العراق، بشيعته وسنته ومسيحييه وصابئته وايزدييه، وبعربه وكرده وفيلييه وتركمانه وآشورييه وكلدانه؛ لكنه إنجاز للواقع الشيعي بالدرجة الأساس.
فهل هناك عاقل في العالم يتخلى عن مقاومته وممانعته وسلاحه، وهو مهدد؟!؛ ليقول للخصوم المدججين بسلاح الدعاية والمال والسياسة والعسكر.. تفضلوا ادخلوا بلادنا بسلام آمنين.. خذوا هويتنا الدينية المذهبية، وخذوا خيراتنا واسلبوا حقوقنا وحرياتنا؟!؛ فنحن مسالمون مستسلمون.. ولانقاومكم؟!، وهل هناك شعب في العالم؛ صمد واستقل، وحافظ على هويته، وانتزع حريته وحقوقه، وبنى ونما وتقدم وتطور؛ دون مقاومة ضد المحتل وضد الخصوم الداخليين والخارجيين؟!
حين نراجع تاريخ أمريكا الحديث، وتاريخ اوروبا وروسيا والصين وإيران المعاصر؛ سنجد أن بناء الدولة ونمائها وتقدم شعبها؛ هو نتاج المقاومة القوية الصلبة من أجل الهوية والاستقلال ودرء أخطار الخصوم الداخليين والخارجيين؛ فلا اقتصاد ولا استثمار دون أمن واقعي، ولا تقدم دون استقلال حقيقي، ولا قانون في ظل التهديد الخارجي والداخلي.
ربما يحدثوننا عن فساد وانفلات بعض عناصر فصائل المقاومة الإسلامية الشيعية. نقول لهم: نعم؛ هذا الواقع موجود، ويجب تطهير هذا الخط الشريف من الفاسدين والفاشلين والعابثين والحمقى والمتطرفين والمنفلتين والخارجين على القانون وعلى الإجماع الشيعي. ولكن؛ وجود هذه الأخطاء التفصيلية، لايعني أن مبدأ ضرورة وجود المقاومة هو مبدأ فاسد، ولايعني أن مبدأ سلامة الخط غير صحيح، وأن مبدأ الأهداف العامة للمقاومة هو مبدأ يتعارض مع وجود الدولة وقوانيها وأركانها.
وأؤكد؛ إن الحفر في تاريخ العراق بعمق، وتحليل واقعه بتركيز وشمولية، وتطبيق المنهج الاركولوجي في هذا المجال؛ سيوصلنا جميعاً الى هذه القناعات، فهي لصيقة بالمنهج العلمي، بعيداً عن العواطف والشعارات والخطاب الطائفي، أو ردود الأفعال على القصف الدعائي المستمر والمنتظم والعنيف على عقولنا وواقعنا النفسي.
ختاماً؛ نقول لمن يتحدث عن التعارض بين بناء الدولة والمقاومة: أعطوا شيعة العراق دولةً تحمي وجودهم وحرياتهم وحقوقهم واستحقاقاتهم، وستنتفي عندها الحاجة الى المقاومة؛ فلا تصح المقارنة بين وطن محتل دائماً، ومجتمع مستهدف على مدى التاريخ، وبلد مهدد، وبين الدول الأخرى المستقرة نسبياً، وشعوبها غير المهددة بهويتها.
https://telegram.me/buratha