دراسة مشتركة بقلم: العلامة الشيخ محمد علي التسخيري وعلي المؤمن
· ضرورات تجديد الشريعة الإسلامية ومناهجها * القسم الثاني:
علم الكلام هو جزء من تراثنا. ويخضع تعاملنا معه للأُسس التي ذكرناها. وهو في الواقع نتاج معرفي ينتمي إلى واقع فكري سابق. ومع انتقال هذا الواقع إلى مرحلة جديدة حافلة بالتطورات والمتغيرات والتحدّيات، فإنّ علم الكلام ملزم بمواكبة هذه المرحلة، حتى يتجاوز الفصام بين الأُصول المعرفية وتحدّيات العصر، ويوضح أثر فاعلية الإيمان عبر كشف الترابط الوثيق بين الرؤية الكونية للعالم والمسألة الاجتماعية.
والدعوات لتأسيس علم كلام جديد يجعل من الفكر الديني محوراً لحركة التغيير والدولة والحرية والتنمية والعدالة، وبالتالي تحديد مسار التاريخ وتوجيه حركة المجتمع وتوفير فرص استقبال التحدّيات العقائدية والفكرية التي ستظهر في المستقبل، والتي تفرزها معطيات الحاضر؛ يمكن تقويمها على أساس مضامينها ومخرجاتها؛ لأن المصطلحات هي قضية لا طائل من الحديث المطول عنها.
نرى أنّ بعض الكتّاب والمثقفين والأكاديميين المسلمين ــ بغض النظر عن تعدد منطلقاتهم ــ لديهم نزوع نحو تحويل التجديد في الأسماء والمصطلحات إلى هدف بذاته وليس وسيلة علمية نتيجتها تحقيق الهدف من البحث والعلم. ولذلك؛ نراهم يلوكون صباحاً ومساءً المصطلحات الجديدة، سواء المخترعة من قبلهم أو المستوردة أو المصنّعة محلياً، وكثير منها مبهم. ويثقلون على مخاطبيهم بهذه المصطلحات، بل إنّ قسماً من هؤلاء يحاول أن يتحذلق وهو يتطفل على الموائد الفكرية، ويخرج علينا كل يوم بعلم جديد وأفكار جديدة، وكم نتمنى لو أنّها كانت علوماً حقيقية وأفكاراً نافعة، حينها لن أتردد في الوقوف إلى جانبهم والتصفيق لهم، وأن أعتبرهم أبطالاً، ولكن للأسف الواقع غير هذا.
ولنأتِ الآن على علم الكلام تحديداً؛ هذا العلم مهما اتسعت موضوعاته وتضاعفت أهدافه وتطورت مناهج البحث فيه وأدوات الاستدلال، فإنّ هويته العامة لن تتغير.. غاياته الأصلية لن تتغير. وهذا ليس شأن علم الكلام وحده، بل كل العلوم الإنسانية والتجريبية والتطبيقية والنظرية، فمن الممكن أن تتسع العلوم وتنقسم على نفسها، ويتأسس علم جديد منشعب من العلم الأُم، ولكن العلم الأُم يبقى محتفظاً بهويته.
لنأخذ ــ مثلاً ــ علم الفقه أو علم النفس، علم الفقه منذ مئات السنين وحتى الآن تضاعف وتضخم وتطور بشكل كبير، ولكن يبقى يحمل الاسم والهوية والغايات نفسها، خذ أيضاً علم الطب أو علم الفيزياء أو علم الرياضيات، علم الفيزياء ليس هو اليوم كما كان في العصور القديمة، بل إنّه تطور بشكل كبير، بل وانقسم على نفسه أكثر من مرة، وظهرت من بين ثناياه علوم جديدة، ولكنها حملت أسماء أُخر، مثل: علم الفيزياء النووية، وعلم الفيزياء النظرية، أو الميكانيك، وغيرها، ولكن لم يدعُ أحد إلى تأسيس علم فيزياء جديد. ومن هنا لا أرى مسوغاً موضوعياً وعلمياً لبعض المصطلحات التي يحاول بعضهم إضافتها لبحوث وعلوم عريقة. وهذا لا يعني أنّني أتعصب للتسميات أو أدعو للجمود عليها، فإنّا لا أتعصب ضد أو مع أي مصطلح أو بحث، جديداً كان أم قديماً، بقدر ما أتعصب للحقيقة، والحقيقة تكمن في ضرورة تحقيق علم الكلام لغاياته، وعدم التضحية بأيّ من العناصر التي تحدثنا عنها في جواب السؤال السابق، أي الأهداف الأصلية والمنطلقات الأساسية، والقوانين المنطقية في الاستدلال. فبدونها لا يمكن أن نسمّيه علماً أصلاً.
ولعل هناك من يتساءل: كيف سيتمكن علم الكلام من مواكبة المتغيرات المتلاحقة في كل مجالات الحياة، وما يترتب عليها من تحولات فكرية، وشبهات جديدة، وموضوعات لم يكن لها وجود في السابق، بل وظهور علوم ومناهج وأدوات استدلال جديدة شكّلت التحدي الأساس لعلم الكلام وأدواته التقليدية؟
لا شك أنّ ميدان علم الكلام ومساحة حركته اتسعا بمرور الزمن، وتطور الفكر الإنساني. ومن هنا يجب إحداث هزة قوية على مستوى تنمية موضوعات علم الكلام وتطوير أدواته في الاستدلال، فيأخذ هذا العلم شتى الاتجاهات الفكرية في العالم بعين الاعتبار، سواء كانت نظريات أو مناهج أو أفكاراً، ويأخذ الاكتشافات العلمية وما يترتب عليها من تطور فكري بعين الاعتبار أيضاً. والنتيجة أنّ علم الكلام معني بالإجابة عن كل التساؤلات الجديدة أيّاً كان إطارها ومنهجها ودوافعها، ولكن شريطة أن تكون الهزة التي ندعو لها مدروسة بعناية علمية.
ونحن نؤيد وندعم الاتجاه الفكري الناضج الذي يدعو الى ضرورة استقبال علم الكلام للتحدّيات الفكرية والعقائدية التي ستظهر في المستقبل، من منطلق إمكانية استشراف هذه التحدّيات الآن؛ لأنّ المتغيرات الفكرية التي تتسارع يوماً بعد آخر في الواقع الإنساني ستظهر نتائجها في المستقبل: وكأنّنا نلمس هذه النتائج الآن.
https://telegram.me/buratha