ناجي الغزي * ||
لا تزال كتابة التاريخ عامة والتاريخ الاسلامي خاصة ضربا من المحاولة الخطرة وخاصة اذا كانت الفترة الزمنية ضاربة في عمق التاريخ, التي تقتصر فيها الكتابة والتدوين والامانة في سرد الاحداث والوقائع وتخليد الشخصيات الثانوية في المشهد التاريخي كتابة متأخرة. وهي الفترة التي تناولها سماحة السيد مضر الحلو من تأسيس الكوفة سنة سبعة عشر للهجرة الى القرن الرابع هي فترة يصعب بها جمع المصادر والوثائق والشهود, لكونها فترة لم تخضع للنقد والقياس والاستنتاج الا ماندر.
لذلك يعتبر الخوض بها والنهوض بأعبائها تحدٍ كبير ومحاولة جريئة من قبل الباحثين والدارسين في مضمار التاريخ والأعلام, ومع ذلك إنفردت موسوعة اعلام الكوفة للإستاذ الباحث المتنور السيد مضر الحلو بتسعة اجزاء وهي الطبعة الأولى – عن دار المؤرخ العربي /بيروت /٢٠١٤م.
تناولت الاجزاء فترة صاخبة بالاحداث السياسية التي تشابك تداعيات احداثها الى يومنا هذا. وقد أنشأت مدينة الكوفة لتكون دار هجرة وعاصمة للمسلمين بدل المدائن وهي ثاني مدينة مصرت في الاسلام بعد الفتح. وقد أسسها سعد بن أبي وقاص سنة سبع عشر للهجرة بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب .
ولعلنا لا نعدو جانب الحقيقة إذا قلنا إن السيد الحلو في موسوعته الموسومة يعد أهم من وثق أعلام الكوفة, لم يسبق مثل هذا الكتاب الموسوعي الجامع والشامل الذي يستغرق بين دفتيه تاريخ أعلام الكوفة منذ سنة سبع عشر للهجرة إلى نهايات القرن الرابع الهجري.
رغم وعورة البحث في قلب الاحداث ورجالاتها وتداخلاتها الزمنية وإرهاصاتها السياسية وتفاعلاتها الاجتماعية وانفعالاتها الثقافية. التي واجهت احداث مثيرة ومروعة, ومن أهمها الاحداث التي جرت على الخليفة عثمان وانتهت بالإطاحة به ومقتله، وانتخاب الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) للخلافة، واتخاذ (الكوفة) عاصمة الدولة الإسلامية.
ويقول السيد الحلو في الجزء الاول من الموسوعة (هكذا ظلت الأحداث تتفاعل في الكوفة، إذ هي مركز العالم الإسلامي وقلبه النابض، وهي عاصمة دولة الخلافة، وشاءت الأقدار أن يتعرض الإمام علي ع للإغتيال المشؤوم في الكوفة نفسها، فيتقلد الإمام الحسن ع الخلافة فيها أيضا، ويهدد معاوية بغزو الإمام الحسن "ع" فجهز له الإمام جيشا من الكوفيين وحصلت الهدنة بعد ذلك ودخل معاوية الكوفة).
إلا أن الباحث وفق وتفوق في جمع تاريخ أعلام الكوفة لمدة خمسة وعشرين عاماً من البحث والعناء والتقصي والاستدلال, لفترة زمنية تمتد لأربعة قرون صاخبة وغائرة في عمق التاريخ. وهذه الفترة تعتبر من أهم وأخصب الفترات التي عاشتها مدينة الكوفة من حيث النضوج الفكري والثقافي والصراع السياسي. وتعتبر موسوعة اعلام الكوفة موسوعة شاملة لمختلف الميادين المعرفية والسياسية والدينية والثقافية والادبية والفنية.
وللكوفة دور علمي وفكري بارز في حركة التاريخ فيقول السيد الباحث: (أما على الصعيد الفكري، فمنذ أن نزل الكوفة ثلثمائة وسبعون من صحابة الرسول ص منهم ثلثمائة من أصحاب الشجرة وسبعون من أهل بدر، والحركة العلمية فيها مستمرة لم تفتر، ففيها ولدت ونشأت المذاهب الفقهية والتيارات العقائدية والإتجاهات التفسيرية وعلوم القرآن وعلوم اللغة والأدب) وهذا الحراك المعرفي منح الكوفة طابعا ثقافيا وفكريا مميزاً, جعلها نقطة ارتكاز سياسي وعلمي ومركز اشعاع فكري وحضاري.
ويكفي الكوفة فخراً أنها كانت عاصمة الخليفة الرابع الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) حيث يقول الباحث :(في الكوفة نثر الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) درر بلاغته وجواهر حكمته التي عكس لنا بعضها أثره الخالد (نهج البلاغة)، وفيها أسس الإمام جعفر بن محمد الصادق ع (ت١٤٨هجرية) مدرسته ذات الأربعة آلاف طالب علم، والتي ظلت آثارها فيما بعد)
ومما لا شك فيه أن موضوع الموسوعة من أهم المواضيع التاريخية التي تستحق الكتابة بكلمات مضيئة وبنور المعرفة وبمداد العارفين.
لذلك جاءت مقدمتها الافتتاحية من قبل العلامة العارف والمؤرخ السيد حسن الأمين (رحمه الله) في الثامن والعشرين من آذار سنة ٢٠٠٢م.
حيث يقول ((عندما لقيت الإستاذ البحاثة السيد مضر الحلو وعلمت أنه عاكف على تدوين تاريخ الكوفة بالطريقة التي دون فيها تاريخ بغداد وتاريخ دمشق، اغتبطت بذلك كل الإغتباط. لأن الكوفة العظيمة التي ناضلت ما ناضلت في سبيل الحق، وقدمت من قدمت من الشهداء، وأبرزت من أبرزت من الأبطال ثم كانت مدرسة الإسلام الكبرى علماً وأدباً وشعراً. وإن الكوفة هذه كانت جديرة بالدراسات الكثيرة والمؤلفات العديدة التي توضح تاريخها وتجلو ماضيها، وتري الأجيال ما كانت عليه هذه المدينة من حياة مزدهرة بالعلم والعلماء والشعر والشعراء والشهادة والشهداء، ولكنها لم تظفر بشيئ من ذلك، ولم يولها أحد ما يستحق تاريخها من تدوين، وأفذاذها من ذكر وتسجيل، حتى جاء هذا العالم الكاتب والمؤرخ عازما على الوفاء للكوفة التي طالما وفت للجهاد والعلم والبحث والتدريس، وإذا كان هذا (الحلو) حلوا في كل شيئ في إسمه وحديثه وسيرته، فإن أحلى ما فيه هو أنه مؤرخ الكوفة الذي سيخلد خلود الكوفة حسبه ذلك))
والاجزاء التسعة من موسوعة أعلام الكوفة اعتمدت الاحداث والشخصيات حسب أهميتها وتأثيرها في مسارات التاريخ, حيث تناول الأئمة من أهل البيت عليهم السلام ومن ثم الصحابة والتابعين والعلماء والمحدثين والمفسرين والمؤرخين والمصنفين والشعراء والادباء واللغوين والنحاة والقراء والاطباء والمغنين والملحنين والخلفاء والولاة والقضاة كل حسب الحروف الابجدية وكذلك محتوى الاجزاء. وقد ضمن فهارس مجدولة لكل كتاب وجعل الجزء الاخير فهرس جامع للموسوعة.
وربما تعجز تلك الدراسة النقدية عن الوفاء لهذا الجهد الموسوعي الكبير التي تشكل دراما تاريخية متنوعة, في مواضيعها السردية المتينة والثمينة. والتي اخذت من الباحث الجهد الكبير والوقت الطويل في البحث والتدوين, لكي تشق طريقها الى القارئ وتأخذ شكلها الانيق ومحتواها الثمين. لترفد المكتبة العربية التي تساهم وتساعد الطلبة والباحثين حول تاريخ الكوفة بكل احداثها وحوادثها ومساراتها ومجاراتها السياسية ورجالها المؤسسين وقادة الرأي والمجتمع وفنونها وآدابها ومنابرها ومدارسها وحوزاتها وحاراتها.
/ *كاتب سياسي