د. علي المؤمن ||
انتهينا في المقال السابق الى أن الأرتداد المعلن، أي إشهار الكفر بعد الإيمان، وفق التعريف الفقهي، والمتضمن الدعوة الى فكر وسلوك معاديين للإسلام، هو مثال الفكر والسلوك اللذين يجب على المجتمع والنظام الاجتماعي الديني والدولة منعهما تحت قواعد (( النهي عن المنكر)) و((لاضرر)) و((حفظ النظام العام)). أي أن إشكالية الارتداد عن الإسلام، تدخل في صلب موضوع حرية الفكر من وجهة نظر الإسلام، وهو يعني ــ باختصار ــ ترك المسلم بالأصالة (المسلم الفطري) أو المسلم بالاكتساب (المسلم الملي) الدين الإسلامي أو إنكار أحد أصول الإسلام، سواء اعتنق ديناً آخر وعقيدة أخرى أو لم يعتنق عقيدة أخرى، وسواء أعلن عن ارتداده ودعا اليه أو لم يعلن، وهو ما تسميه الشريعة الإسلامية بموجبات الإرتداد. ويدخل الإلحاد في إطار هذا التقسيم أيضاً، بوصفه أحد أنواع الارتداد؛ فالمسلم الذي ألحد؛ أما أن يكون قد أخفى ارتداده، سواء اعتنق عقيدة إلحادية معينة، كالوجودية والماركسية، أو لم يعتنق، وأما أنه أعلن عن إلحاده ودعا إليه، أو روج لعقيدته الإلحادية الجديدة.
وبالتالي؛ يكون للارتداد ثلاثة أنماط وفق الرؤوية الإسلامية، ولكل نمط أحكامه في الشريعة، مع يعض الفروقات التفصيلية بين المرتد الفطري والمرتد الملي، وقرن بكل حكم عقوبة، وأدوات للتنفيذ:
1- الارتداد القلبي، وهو أن يحتفظ المرتد بارتداده لنفسه، ويمارسه فكراً وسلوكاً معارضاً للإسلام دون إعلان، وهذا المظهر يرتبط بالنوع الأول من الحرية، أي حرية التفكير والاعتقاد. وهذا النوع من الارتداد لايمكن لأي مخلوق المحاسبة عليه، وحسابه موكول الى الله.
2- الارتداد المظهري، ويتمثل بإعلان المرتد عن ارتداده بشكل صريح، من خلال إنكار الإسلام أو أحد أصوله، أو إعلان اعتناقه ديانة وعقيدة أخرى. وقد حسمت الشريعة الإسلامية الموقف من مُعلن الارتداد؛ إذ سلبته حرية الإعلان عن ارتداده، ومنعته من التعبير عن ردته؛ ذلك أن المرتد، مع إعلانه الارتداد؛ يستهدف وحدة المجتمع المسلم وتماسكه وأمنه، لأنه يضرب العقيدة التي تحقق الاستقرار والتوازن المجتمعي.
3- الارتداد المحارب، وهو الارتداد المركب، والذي لايكتفي فيه المرتد باعلان ارتداده، بل يتحول الى محارب للاسلام، وداعية للقضاء عليه، وينتقل خلال ذلك الى المعسكر الذي يحارب الإسلام والمسلمين، سواء تمثل هذا المعسكر في جماعة منظمة أو دولة. وتقف الشريعة الإسلامية موقفاً حاسماً من هذا اللون من الارتداد، يتمثل في اقتلاعه، لأنه يمثل أعلى مراتب الإفساد في الأرض، وفق التعبير الفقهي.
وهناك تفاصيل كثيرة في موضوع العقوبات المترتبة على الارتداد وأنواعه ومراتبه، يمكن مراجعتها في الكتب الفقهية. وهنا ينبغي التأكيد على أن مدخلية المصلحة الإسلامية العليا، وفق ما تراه مرجعية النظام الاجتماعي الديني أو الدولة التي تحكم بالشريعة؛ تنقل الحكم الأولي الى عناوين أخرى، تعمل على تغيير الأحكام.
وبعد هذه الجدولة السريعة لإشكاليات حدود الحرية الفكرية والسلوكية وفق الرؤية الإسلامية، نرى أن سعة الموضوع وتشعّبه، وتشابكه مع مواضيع أخرى كثيرة، تفرض تظافر جهود الفقهاء والمفكرين والمثقفين الإسلاميين لمعالجته ووضع ثوابت وأسس لأحكامه، وخاصة مع سرعة التطورات الهائلة لحركة الحياة، والتحول في الموضوعات والمفاهيم، وتغير وسائل التفكير والتعبير، في ظل واقع دولي، سياسي ودبلوماسي وثقافي وقانوني ضاغط.
https://telegram.me/buratha