دراسات

وظيفة الفقيه ودوره


 

د. علي المؤمن||

 

    الفقهاء - كما في الحديث - أمناء الرسل وورثة الأنبياء، وقادة النظام الاجتماعي الديني، والحكام على الناس، والحكام بين الناس، ومراجع الشريعة. وتتطلب تلك المهام من الفقيه أن يتمتع بالمواصفات التالية:

    1-  الفهم العميق لمصادر التشريع وقواعده الفقهية والأصولية والعلوم المساعدة، إلى مستوى القدرة المطلقة على الاستنباط والإفتاء.

    2- وعي العصر والحياة، إلى مستوى القدرة على تحديد الحاجات الجديدة، للفرد والمجتمع، واستيعاب موضوعاتها، وتحديد الموقف الشرعي منها، فضلاً عن القدرة التأصيلية على التجديد الديني وتطوير حركة الفقه والاجتهاد.

    3- العدالة في النظر والقول والفعل والتقرير، إلى مستوى الابتعاد عن كل مواطن الشبهات، والتحوّل إلى أسوة في التزكية والعبادة والمعاملة.

    4- الكفاءة الإدارية والقيادية، إلى مستوى القدرة على التخطيط لحركة المجتمع، ثم تسييرها وتوجيهها على الصعد كافة.

    أي أن للفقيه أدواراً ومواقع متكاملة ومتداخلة:

    1 - دينية، وتتمظهر في مرجعية الفتوى والتقليد، والدعوة والتبليغ.

    2 - علمية، وتتمظهر في التدريس والتأليف والتحقيق.

    3 - اجتماعية، وتتمثّل في الإرشاد والتوجيه والإدارة الاجتماعية.

    4 - سياسية، وتتمثّل في الولاية والقيادة.

    5 - اقتصادية، وتتمظهر في تنظيم بيت مال المسلمين وإدارته.

    6 - قانونية، وتتمثّل في القضاء بين الناس وإجراء أحكامه.

    ومن أجل تنظيم هذه الأدوار، والحيلولة دون حصول أي نوع من التزاحم بين مساحات عمل الفقهاء؛ فقد اختصت بعض الأدوار والمواقع في فقيه واحد. مثلاً؛ موقع القيادة وولاية الأمر به الفقيه المتصدي، الذي تكشف عنه الأمة من خلال أهل الحل والعقد، من بين مجموع الفقهاء الحائزين على شروط الولاية العامة، سواء حمل عنوان "المرجع الأعلى" أو الولي الفقيه". وكذلك منصب القضاء؛ فإن الضرورات التنظيمية والإدارية تفرض أن تناط مهامها بالعدد الذي تقتضيه الضرورة. وربما لاتوجد فجوات مخلّة في أغلب تلك المواقع والأدوار، خاصة الجانب التقليدي المرتبط بمرجعية الفتوى، وكذا المواقع العلمية والسياسية والقضائية، ولكن هناك ثلاثة مهام عامة باتت محل تداول ونقاش متواصل منذ أواخر عقد السبعينات من القرن الماضي:

    1 - الاجتهاد الجديد:

    وهو الاجتهاد المنسجم مع سرعة حركة الحياة ومتطلبات العصر الضاغطة، أي أنه الاجتهاد الجديد في أفقه وموضوعاته، والذي يكمِّل الجانب التقليدي في أدواته وقواعده. وقد عبّر عنه بعض الفقهاء عن الاجتهاد الجديد بـ "الاجتهاد المتحرك" أو "الديناميكي"، والذي يستند الى مجموعة قواعد، أهمها: "مقاصد الشريعة" و"الأولويات" و"مدخلية الزمان والمكان". وحين دعا الإمام الخميني الى تطبيق هذا اللون من الاجتهاد في أواسط ثمانينات القرن الماضي، وأكد ضرورته؛ فإنه أكد أيضاً على أن هذه الأفاق الجديدة التي يمكن أن تعد تجديداً في الاجتهاد؛ ينبغي أن لايخرج عن قواعد الاجتهاد التقليدي، والذي أسماه بـ "فقه الجواهري" (نسبة الى معايير الاجتهاد المستوحاة من كتاب جواهر الكلام لصاحبه المرجع الديني الشيخ محمد حسن النجفي)، ويوضح دوافع الآفاق الاجتهادية الجديدة بقوله: «سيتغير الكثير من الطرق السائدة في إدارة أمور الناس في السنوات القادمة، وستحتاج المجتمعات الإنسانية إلى المسائل الإسلامية الجديدة لحل مشاكلها. يجب على علماء الإسلام العظام أن يفكّروا بهذا الموضوع من الآن». ولاجدال في أن مسألة استنباط الأحكام الجديدة إلى مستوى تغطية الحاجات المتجددة للانسان والمجتمع، وتحديد الموقف الشرعي منها، والتجديد في الاجتهاد، هي من اختصاص الفقهاء، بحيث تتوقف وتتعطل إذا لم يقوموا بذلك، بل ربما تنحرف عن مسارها الشرعي. فملاحظة تلك التغيرات والتطورات والتحولات في حركة الحياة، ثم معالجتها فقهياً، مع الأخذ بنظر الاعتبار عاملي الزمان والمكان، وأساليب الاجتهاد الجديد، هو الحل الوحيد يبقى على الشريعة تخصصاً علمياً، وموقفاً نظرياً، ومنهجاً في العمل، وخطاباً شاملاً، ونظاماً يقود الحياة، وتكون مهمة الفقيه في هذا المجال تطويع موضوعات الحياة للشريعة.

    ويؤكد أحد الفقهاء أن مهمة المجتهد الحقيقي في الوقت الحاضر إحداث تحوّل في واقع الاجتهاد والفقه، في المسائل غير العبادية، أي الاجتماعية، بعد دراسة عناصر الاستنباط ومصادره من جديد. وبذلك «تتجلى شمولية الدين والفقه ومسايرتهما لمظاهر الحياة المتطورة. ويجب أن نعرف إذا لم تستخدم أصول الأحكام والقوانين الكلية، في الاستنباط ومناطات الأحكام في المسائل غير العبادية، كالمسائل السياسية والاقتصادية والتجارية أو مسائل العلاقات الدولية ومسائل السلطة، فإنه لا يمكن حل كثير من المشاكل، وسيبقى الخلل والنقص واضحين».

ومن جانب آخر، بات الانفتاح على تراث المذاهب الإسلامية ونتاجاتها العلمية، وتطبيقاتها العملية، والانتفاع منها، أمراً ضرورياً في حل كثير من المشاكل الشرعية التي تواجه المجتمعات المسلمة، سواء في ظل حكم الشريعة الإسلامية، أو في ظل الأنظمة المختلطة (العلمانية ــ الإسلامية)، أو التي تواجه المسلمين في البلدان غير المسلمة ويشكلون فيها أقلية دينية. ويتطلب ذلك توسيع دائرة الفقهاء المتخصصين في العلوم الإسلامية المقارنة، ليس في مجال الفقه وحسب، بل في علوم القرآن وعلوم الحديث وعلم أصول الفقه وغيرها.

    كما يتطلب ذلك أن لاينظر الفقهاء بأجمعهم الى بلوغ موقع المرجعية؛ بل التوجه الى الاختصاصات الفرعية، وذلك عبر التأسيس لمبدأ التخصص في الموضوعات الفقهية وأبوابها أو التخصص في العلوم الأخرى؛ فيكون هناك فقهاء يتخصصون في فقه العبادات، وآخرون في الفقه الاقتصادي، أو في الفقه السياسي أو فقه العقود أو الفقه الاجتماعي أو الفقه الثقافي وغيرها؛ بل وتخصصات أكثر دقة وتفرع. وليس المقصود هنا الاجتهاد المتجزء؛ بل المقصود أن يتجه المجتهد بعد بلوغه درجة الاجتهاد المطلق؛ الى التخصص في أحد تلك الأقسام أو الأبواب الفقهية، وليس بالضرورة أن يخوض مئات الفقهاء في دراساتهم ودروسهم ومؤلفاتهم، في الموضوعات نفسها والزمان نفسه. بل من المهم أيضاً أن يتجه فقهاء آخرون الى التخصص في علوم إسلامية أخرى غير الفقه، كالتفسير وغيره من علوم القرآن، وعلم الكلام وعلم أصول الفقه وعلم الرجال وعلوم الحديث والفقه المقارن، أو التخصص في اللغة العربية والترجمة التخصصية أو علم الأديان أو الفلسفة.

    2 - الحقوق الشرعية والموقف المالي:

    يتوقف كثير من الفقهاء عند واقع قضية الحقوق الشرعية (الزكاة والخمس وغيرهما) وعملية استحصالها وضبط توزيعها عملياً. وليس محور البحث هنا الأصول التشريعية لهذه الحقوق ومواردها ومستحقيها، كما أشبعتها المدونات الفقهية بحثاً واستدلالاً، بل هدف البحث هو المتولّي عليها في عصر الغيبة، والأساليب العملية لاستحصالها وتوزيعها. وإذ يجمع الفقهاء على أن ولاية التصرف في الحقوق هي للحاكم الشرعي (الفقيه) أو مرجع التقليد، لكنهم يتوقفون عند ماهية هذا الفقيه أو المرجع؛ فهل هي لكل الفقهاء، أو لعدد منهم أو لفقيه بعينه؟. وهنا يخرج الفقهاء المجددون بنتيجة، ملخصها؛ أن الولاية على الحقوق الشرعية وحركتها، من المؤمنين إلى بيت المال(الجباية)، ومنه إلى مستحقيها (التصرف)؛ بحاجة الى تنظيم عملي للموقف المالي وتوحيد له؛ ليكون المال الشرعي أكثر نفعاً وتأثيراً في إسناد مكونات النظام الاجتماعي الديني الشيعي، بعدالة، وبعيداً عن أية شبهة شخصانية.

    3 - حركة التبليغ والإرشاد الديني ـــ الاجتماعي:

    هناك اعتقاد منتج ومهم يتلخص في ضرورة أن تكون قضية التبليغ والخطابة والإرشاد الديني المباشر للمجتمع خاصة بالفقيه أو عالم الدين المقارب للاجتهاد، أو من يدرس في مرحلة البحث الخارح (الدراسات العليا)، وليس لكل من يرتدي الزي الديني؛ لأن التبليغ الديني العام يقع في دائرة مهام الفقيه الأساسية. ويلاحظ وجود خلل واضح في هذا المجال؛ فمعظم علماء الدين - وخاصة المجتهدين والذين تقدّموا في مراحل الدراسة العليا - يرجّحون الاستمرار في الدراسة والتدريس والتحقيق والبحث، على السفر خارج مدنهم أو بلدانهم للقيام بأعباء التبليغ والإرشاد والدعوة، ولو لمدّة محدودة. بل إن بعضهم لا يقوم بهذا الدور حتى في منطقة إقامته، ويعتبر العمل التبليغي مهمة خطباء المنبر وصغار العلماء، ولا يتناسب مع مقام عالم الدين الكبير أو الفقيه، الذي تنحصر مهمته ـــ وفق هذا الرأي ـــ بالدراسة والتدريس والتحقيق الفردي. حتى بات هذا الاتجاه عرفاً في المؤسسة الدينية.

    وبالتالي؛ فإن الفقهاء في الحوزات العلمية، والذين يصل عددهم الى مايقرب من (500) مجتهد؛ سيتضاعف تأثير وجودهم وأعمالهم وأدوارهم الى أضعاف مضاعفة، فيما لو توزعت جهودهم العلمية والدينية على أكثر من مجال؛ فيكون هناك 30 بالمائة يتخصصون في الفروع الفقهية و30 بالمائة للتخصص في باقي العلوم الإسلامية أو العقلية أو الإنسانية والاجتماعية، و 30 بالمائة للعمل التبليغي في المناطق الأخرى. أما الـ 10 بالمائة المتبقين فهم الفقهاء المتميزون غالباً، والذين تكون اهتماماتهم تقليدية شاملة.

    ولا شك أن بعض المهتمين سيتصور أن هذا اللون من الطرح هو نوع من التنظير غير العملي، انسجاماً مع رؤيته للركود في الواقع. إلا أن عملية التطبيق ستكون ممكنة فيما لو تمت عملية تكييف هذا التوزيع وأساليبه وأدواته، في إطار مشروع إعادة مأسسة النظام الاجتماعي الديني ومنظومة المرجعية والمؤسسة الدينية، وهو مشروع لابد أن يقوم، عاجلاً أو آجلا؛ لأن عجلة التطور الشامل والحاجات المتراكة؛ ستجعل الجمود على الأدوات والسياقات والآفاق، وجهاً آخر للخروج من الزمن.

ـــــــــــ

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك